بيسان

صيف غزَّة الُمثقل بالحنين لما قبل الإبادة

المصدر تقارير
صيف غزَّة الُمثقل بالحنين لما قبل الإبادة
أميرة نصَّار

أميرة نصَّار

صحافيّة وكاتبة من غزَّة

"الصيف فصلي المفضل، من التقاط صورة غروب الشمس والاستمتاع بزرقة شاطئ البحر ولمّة العائلة والأصدقاء وحفلات الشواء، لكن الاحتلال الإسرائيلي قتل الفرحة والمتعة، وحوّلها إلى فصل من المعاناة بذكريات مليئة بالفقد والوجع"، تتنهد إيمان حسونة (25 عامًا) في حديثها. إيمان واحدة من بين مليوني غزّي، كان شاطئ البحر بواجهته البحرية المتنفس الوحيد للاستجمام والهروب من حرّ الصيف.

تنفض إيمان ذكرياتها وتعود بذاكرتها قبل عامين، وترتسم ابتسامة على ثغرها، وتقول: "في العطلة الصيفية السنوية، كنا نخطط ونستعد لإمضاء يوم كامل على شاطئ البحر، يبدأ من ساعات الفجر الأولى برفقة عائلتي وخالاتي وأخوالي وأطفالهم، وينتهي في ساعات الليل المتأخرة".

خلال حرب الإبادة المستمرة منذ 22 شهرًا على قطاع غزّة، طمس الاحتلال الإسرائيلي جميع مظاهر وطقوس الفرح الفلسطيني المتوارثة

وعن أمتع اللحظات التي كانت تقضيها حسونة، تحدثنا: "كان لشاطئ البحر طقوسه المبهجة، من تناول وجبة الإفطار الفلسطينية من، مناقيش الزعتر، الحمص، الفلافل، الفول، والدقة الغزّية، واحتساء الشاي، وبعدها يذهب الأطفال إلى السباحة، ومن ثم نقوم بتحضير وجبة الغداء المتنوعة التي تعدها كل عائلة من، شواء السمك والدجاج، المقلوبة، ورق العنب، والمحاشي، والمعجنات. نمضي يومًا ممتعًا ومليئًا بالفرحة".

للعام الثاني على التوالي يطل فصل الصيف على سكان قطاع غزّة تحت نيران حرب الإبادة الإسرائيلية، ويفرض الاحتلال الإسرائيلي القيود الأمنية الصارمة على السباحة والصيد والاقتراب من شاطئ البحر.

تصمت إيمان لثوانٍ معدودة وتستكمل: "للأسف فصل الصيف في غزّة لم يعد كما كان، بات يحمل غصّة ثقيلة بالقلب وذكرى موجعة، قتل الاحتلال الإسرائيلي خالتي وخالي اللذين كانا يعدّان لنا المقلوبة والشواء، وفرّق جمعة الأحباب والعائلة التي كانت تغمرها السعادة وأجواء من الضحك".

تتابع حسونة بنبرة مثقلة: "تحوّل شاطئ البحر من مكان استجمام بخيام صيفية مؤقتة، إلى خيام نزوح دائمة، حلت بديلًا عن البيوت بواقع مرير يعبر عن الأسى الذي تكابده العائلات النازحة وسط حرّ الصيف ولهيب أشعة الشمس الحارقة". 

"أفتقد الهدوء وساعات الغروب الساحرة، بضحكات الأطفال على الشاطئ وسهرات العائلات وتناولها المثلجات والذرة المشوية وتجمعاتها داخل الكافيهات، التي كانت مصدر دخل للعديد من الأسر"، تقول حسونة.

أثقل صيف

"كنت أستيقظ مع ساعات الفجر الأولى على رائحة فواكه الصيف التي كانت تكبر أمام عينيّ من كروم العنب، والتين، والخوخ، والجوافة، والقشطة، والجميز، والتوت، والذرة، والزيتون الممتدة على مساحة 7 دونمات في أرضي"، يقول أبو مصطفى عزّام بحرقة.

لم يصل عزّام (75 عامًا) منذ عدّة أشهر إلى أرضه الواقعة في شارع 10 جنوب حي الزيتون، الذي يُعتبر من أكبر أحياء البلدة القديمة، والمشهور بكثرة أشجار الزيتون التي تغطي مساحات واسعة.

يحكي الرجل السبعيني بحسرة: "خسارتي لا تقدَّر بثمن، جرف الاحتلال الإسرائيلي دونمات الأراضي التي قضيت فيها طفولتي وشبابي وزراعتها بأناملي التي تجعّدت وشهدت على مواسم الحصاد التي كانت تكفي عائلتي طوال العام وتجوب بعض الأسواق بأسعار زهيدة في متناول الجميع".

يتابع عزّام والدمعة متحجرة في مقلته: "أرضي متوارثة من أجدادي ووالدي، ثم توارثتها ومنحتها جلّ الرعاية والاعتناء بها من تسميد التربة وجلب الماء ومكافحة الحشرات والآفات".

يضيف أبو مصطفى: "الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة جرف وأزال أشجار الزيتون والجميز التي تجاوز عمرها مئات السنين بلمح البصر، وترك حسرة وغصّة في قلبي لا يمكن أن تُنسى أو تُعوَّض".

وعن الذكريات التي تعصف بالمزارع أثناء نزوله إلى الأسواق وشراء الخضروات لعائلته، يقول لـ"الترا فلسطين": "أسعار الخضروات والفواكه ارتفعت بصورة جنونية، لم أكن أصدق الأسعار التي كان يخبرني بها البائعون في الأسواق، بتجاوزها العشرة أضعاف السعر الأصلي الذي كان قبل حرب الإبادة التي دمّرت الأراضي الزراعية وحرمتنا من الوصول إليها وإعادة إصلاحها".

أقل من 5% من الأراضي الزراعية في غزّة ما زالت صالحة للزراعة أو يمكن الوصول إليها، ما يفاقم خطر المجاعة في القطاع، وفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو).

فصل الفرح

"يحلّ فصل الصيف على عائلتي كموسم لإقامة الأفراح بمظاهر ومراسم العرس الفلسطيني بطقوسه المبهجة المتوارثة من الجدات والأمهات، من إعداد طبق السماقية، ويتبعها إقامة ليلة الحناء التي تجتمع فيها النساء بارتدائهن الأثواب المطرزة يدويًا والتي تعبر عن الهوية الثقافية للمدن الفلسطينية، على وقع ترديدهن الأهازيج والمهاهاة على نغمات الطبلة، ثم يتبعها نقش وتزيين يد العروس تمهيدًا لانتقالها إلى بيت زوجها، وتقام نفس المراسم في بيت العريس أيضًا"، تقول أم معتز نصّار (53 عامًا).

الأعراس الفلسطينية ليست مجرد طقوس احتفالية، بقدر ما تعبر عن الهوية الفلسطينية، واختفاؤها بمثابة كسر للروح الجماعية. تحدثنا السيدة الخمسينية وعيناها العسليتان تلمعان: "في يوم العرس تُقيم عائلة العريس وليمة الغداء، يتناولها الأصدقاء والجيران والأحباب، يتبعها طقس حمام العريس في حمام السمرة التاريخي، وتختتم مراسم العرس بزفة العريس وعروسه بالفستان الأبيض وسط ضحكات وسعادة غامرة".

"حنى يا حنى، العرايس على إيد العروس يا محلاها"، بهذه المهاهاة كانت النساء يصدحن في ليالي حناء بناتهن وسط أجواء من السعادة الغامرة. تُشبك نصّار أناملها ببعضها البعض وتستكمل: "الحمد لله، أقمت مراسم الحناء وطقوس الفرح المبهجة في بيتي أربع مرات قبل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي سرعان ما طمست جميع الطقوس وباتت مقتصرة على ارتداء العروس الفستان الأبيض بدون أي زينة أو زغرودة فرح".

خلال حرب الإبادة المستمرة منذ 22 شهرًا على قطاع غزّة، طمس الاحتلال الإسرائيلي جميع مظاهر وطقوس الفرح الفلسطيني المتوارثة. وتختتم حديثها مع "الترا فلسطين": "بأمل أن تنتهي حرب الإبادة الإسرائيلية، التي ارتقى خلالها العديد من العرسان والمخطوبين قبل إتمام مراسم زواجهم التي حوّلها الاحتلال الإسرائيلي إلى أحزان".

يعلق الكثير من الغزّيين آمالهم بانتهاء حرب الإبادة هذا الصيف، ليحلّ الصيف القادم ضيفًا بمباهجه وطقوسه المفرحة.