كيف تستمر الحياة في غزة رغم الحرب؟ سؤال يبدو بسيطًا، لكن إجابته تحمل كل تعقيدات الواقع المرير. فالحياة تحتاج إلى بيئة آمنة، وموارد كافية، وعلاقات إنسانية متينة، وزواج يُشكِّل لبنة جديدة لمجتمع قادر على الصمود. لكن كيف يتحقق ذلك وسط حرب طاحنة قاربت على سنتين، أحرقت الأخضر واليابس، ووسّعت رقعة الألم حتى كادت تطمس فرحًا كان حاجةً ضرورية للبقاء؟
في غزة، لم يعد الزواج مجرد قرار شخصي، بل تحوّل إلى فعل مقاومة ضد اليأس، ومحاولة لإثبات الحياة رغم الموت. فالشباب يواجهون تحديات غير مسبوقة: انعدام الأمن، وندرة الموارد، ومستقبل غامض. ومع ذلك، تظّل الأفراح —ولو بسيطة— شهادة على إصرار غزيّ على العيش، وليس مجرد البقاء.
رغم الحرب والنزوح المتواصل، لم تتوقف المحاكم الشرعية في قطاع غزة عن أداء دورها الحيوي في حماية الحقوق القانونية للأهالي، فعبر نقاط طوارئ منتشرة في القطاع، تُقدَّم الخدمات.
زفاف في خيمة النزوح وطفل من قلب الحرب
"كان قرارًا صعبًا، لكنه كان ضروريًا"، هكذا بدأ حسين أحمد (28 عامًا) حديثه عن زواجه بعد سبعة أشهر من الحرب التي أنهكت القطاع. يقول حسين: "قدر الله أن أجد شريكة حياتي ، حيث عقدنا القران قبل الحرب بثلاثة أشهر، واتفقت مع أهل خطيبتي على إتمام الزواج بعد خمسة أشهر من الخطوبة".
بجهد مضاعف، عمل حسين ساعات إضافية ودفع إيجار شقة مقدمًا لثلاثة أشهر، وحجز صالة للأفراح، وخطط لكل تفاصيل حفل الزفاف. لكن الحرب عصفت بكل شيء، فقتلت الفرح وشردت العائلات. يقول: "تفرق شملنا، بعضنا بقي في غزة، والبعض الآخر نزح إلى النصيرات، بينما فقدت الاتصال بمخطوبتي لمدة شهر كامل حتى عرفت أنها نزحت إلى خانيونس".
بعد عناء، تمكن حسين من لمّ شمل أسرة زوجته في خيمة نزوح بالنصيرات، حيث أصر على إتمام الزواج رغم الظروف القاسية. لكن الفرحة لم تكتمل، إذ صُعق بخبر استشهاد والده وأخيه في قصف استهدف مواطنين ينتظرون الحصول على الخبز. يقول: "دخلت في اكتئاب شديد، لكن بعد شهرين قررنا المضي قدمًا وإتمام الزواج".
في خيمة النزوح، تزوج حسين، ورزق بطفله الأول، قبل أن يعود إلى منزله في غزة خلال هدنة كانون الثاني/يناير الماضي، رغم أنه تعرض للقصف. يختتم حديثه: "الحرب أخذت منا الكثير، لكننا نواجهها بفرحنا الصغير؛ لأن الحياة يجب أن تستمر".
الحب في زمن النزوح
"ليس كل ما في مخيمات النزوح قاسيًا، فقد يفتح الألم أحيانًا بابًا للفرح"، بهذه الكلمات بدأ مصعب الناجي (26 عامًا)، مدرس اللغة العربية، حديثه عن قصة زواجه غير التقليدية في خضم الحرب.
التقى مصعب بزوجته ريم عبد الباري (24 عامًا) بالمصادفة أثناء جلبها للماء في المخيم، فوقع في حبها من النظرة الأولى. يقول: "أخبرت أهلي برغبتي بالزواج منها، وبعد مشاورات بين العائلتين، تمت الموافقة". لكن المفاوضات حول شروط الزواج كانت اختبارًا للصبر، حيث طلب أهل العروس مبلغ 5000 دينار مقدمًا ومثلها مؤخرًا، بالإضافة إلى متطلبات عفش البيت، رغم أن العروسين وأسرتهما يعيشون في خيام النزوح.
"استغربنا الطلب، لكن والدها أصر على أن الزواج للعمر ويجب حفظ الحقوق"، يضيف مصعب. بعد سجال طويل، تم الاتفاق على 3000 دينار مقدم و5000 دينار مؤخر ومثلها لعفش البيت، مع دفع المبلغ على جزئين: نصفه نقدًا والنصف الآخر عبر تحويل إلكتروني.
عقد زواج بين القصف والنزوح
واجه الزوجان تحديًا أكبر في توثيق العقد بسبب استهداف المحاكم الشرعية وتوقف عملها جزئيًا. يقول مصعب: "لجأنا إلى العرف الديني، حيث شهد رجال المخيم على العقد، ووقعنا ورقًا مبدئيًا". وبعد شهرين من التنقل بين المخيمات والنزوح، تمكنا من توثيق الزواج رسميًا في محكمة دير البلح الشرعية.
أما ريم، فتروي جانبًا آخر من المعاناة بروح ساخرة: "كنت أطلب خيمة بغرفتين وصالة، وكنا نضحك على أنفسنا ونحن نحلم بما لا نملك". تقول بمرارة: "الحرب شكلت حياتنا كما أرادت، لكننا قررنا ألا ننجب أطفالًا إلا بعد انتهاء الحرب، عندما نستطيع تأسيس بيت حقيقي يليق بهم".
طلقني لأجل سيجارة
بصوت خافت وملامح منهكة، تروي م.ن قصتها التي تختزل معاناة مئات النساء في قطاع غزة تحت وطأة الحرب والظروف المعيشية القاسية. تقول الأم الثلاثينية: "أنا وزوجي وأطفالنا تنقلنا مرارًا بين مخيمات النزوح، وفي كل مرة كنا نحاول أن نبدأ من جديد، كانت الحرب تعيدنا إلى الصفر". لكن المعاناة لم تكن فقط مع القصف والنزوح، بل مع زوجها المدخن بشراهة، كما تقول: "تحولت السجائر إلى هاجس يطغى على كل شيء.. على أماننا، على احتياجات أطفالنا، وحتى على علاقتنا كأسرة".
مع اشتداد الحصار وارتفاع أسعار السجائر، تحوّلت الحياة إلى جحيم يومي من الشجارات والإهانات وسوء المعاملة. وتضيف: "كانت تبدأ المشكلة عندما لا يجد السجائر، وتنتهي بالضرب والطرد من الخيمة". وفي لحظة غضب وانفلات، قرر طردها مع أطفالها، قائلًا: "روحي عأهلك.. أنا مش ناقص وجع راس".
نزحت إلى خانيونس حيث تقيم عائلتها، وبعد تدخل رجال الإصلاح، ثُبّت الطلاق في المحكمة الشرعية. لكن المعاناة لم تنتهِ، كما تقول: "يرفض دفع النفقة، ويسخر منا قائلًا: 'احبسوني إذا بدكم.. البلد واقعة'. لاحقًا علمت أنه تزوج من أخرى واستأجر بيتًا".
اليوم، تعيش م.ن مع أطفالها الثلاثة على مساعدات عينية متناثرة، متنقلة بين الخيام، تائهة بين ظلم رجل تركها، وظروف حياة لا ترحم. وتتابع: "هل أنا نادمة؟ لا أدري. كل ما أعرفه أن العدالة غائبة في زمنٍ صرنا فيه جميعًا ضحايا... حتى الأطفال".
المحاكم الشرعية في غزة: صمام أمان لحفظ الحقوق رغم ظروف الحرب
رغم الحرب والنزوح المتواصل، لم تتوقف المحاكم الشرعية في قطاع غزة عن أداء دورها الحيوي في حماية الحقوق القانونية للأهالي. فعبر نقاط طوارئ منتشرة في القطاع، تُقدَّم خدمات الزواج، والطلاق، وحصر الإرث، والوصاية، والعزوبة، والوكالات، وإثبات الوفاة، وغيرها.
يقول القاضي عمر نوفل، رئيس لجنة الطوارئ في جنوب القطاع: "حاجة الناس للمحاكم الشرعية كحاجتهم للطعام والدواء. نتوقف فقط عند الإخلاء القسري، لكننا نعيد فتح نقاط بديلة بمجرد استقرار الأهالي".
ويحذر نوفل من اللجوء إلى إجراء عقود خارج الأطر القانونية، قائلًا: "حين يتم الزواج أو الطلاق خارج المحكمة، تظهر مشاكل خطيرة في إثبات النسب أو توثيق الحقوق، خصوصًا عند الوفاة أو النزاع".
وقد عالجت المحاكم العديد من الحالات التي جرى فيها تسجيل الزواج أو الطلاق بطرق غير رسمية، من خلال تصديق العقود شرعًا وتثبيت الحقوق القانونية للمرأة والأبناء، بما يشمل المهر والنسب. كما تم استدعاء بعض من نظموا تلك العقود وتحذيرهم من تكرار الأمر.
ويؤكد القاضي نوفل أن القضاء الشرعي لا يهدف فقط إلى توثيق العقود، بل هو صمام أمان مجتمعي يحمي الضعفاء، خصوصًا النساء والأطفال، وسط الفوضى التي خلفتها الحرب.
وفي ظل ظروف الحرب القاسية، يروي المأذون الشرعي أحمد خضورة قصصًا متناقضة عن واقع الزواج والطلاق في قطاع غزة. وقال خضورة: "شهدت حالات زواج تعكس مراعاة للحرب، مثل أب رفض أن يأخذ من زوج ابنته أكثر من 2000 شيكل مهرًا، وآخرين أتموا زواجهم وطلاقهم برضا تام، مع تسديد المهر والحقوق عبر التحويلات البنكية".
لكن المأذون أشار إلى الجانب المظلم: "كما يوجد الثمين، لا ننكر وجود الغث. قابلت حالات لرجال تنكروا لدينهم وأخلاقهم، فظلموا زوجاتهم ومنعوا حقوقهن، بل وحالات 'معلقات' لا هن مطلقات ولا متزوجات".
وأكد المأذون أنه يبذل جهودًا كبيرة لرأب الصدع بين الأزواج، لكن بعض الحالات تعاند الحلول، مما يضطرهم للجوء للمحاكم الشرعية التي تواصل عملها رغم كل التحديات.