رغم اشتداد حرب الإبادة بالقصف والتجويع، اختارت رشا نصار (28 عامًا) البقاء في منزلها الواقع شمال محور نيتساريم في مدينة غزة، متمسكةً بجدران تعرفها أكثر من خيام النزوح المجهولة. قرارٌ لم يمرّ دون كلفة، إذ سرعان ما وجدت نفسها في قلب هذه الإبادة متعددة الأساليب، تخوض معركتها ضد دخان الحطب، بعد انقطاع غاز الطهي لأكثر من عامٍ ونصف عن المنطقة.
عيادات الأونروا تستقبل بشكل متزايد نساءً يعانين من حساسية في الصدر، وسعال مزمن، وصداع دائم، فضلًا عن التهابات في الجيوب الأنفية وتهيّج العيون ومشاكل جلدية مرتبطة بالتعرض المتواصل للدخان
تقول رشا: "بدأت أزمة الغاز منذ الأيام الأولى للحرب. حاولنا شراءه من السوق السوداء، لكن سعر الجرة وصل إلى 1200 شيكل، وهو مبلغ يفوق قدرتنا، ثم اختفى حتى من السوق. لم يكن أمامنا سوى إشعال الحطب، نستخدمه حتى داخل البيت رغم الدخان والتعب".
لكن الاعتماد على الحطب لم يكن مجرد حلٍّ مؤقت، بل بداية لمعاناة صحية استمرت شهورًا، إذ تعاني رشا من حساسية في العين وجفافٍ مزمن تفاقما مع التعرض المستمر للدخان. وتضيف: "كنت أرتدي نظارات أثناء عملي على الحاسوب، وكان نظري جيدًا، لكن الآن أعاني من حرقة دائمة في العين، ولا أستطيع حتى إغلاقهما ليلًا من شدة الألم. حتى إن بصري تراجع".
ومع تدهور صحة والدتها، تولّت رشا مسؤولية الطهي، وتوضح أن "التعامل مع الحطب شاقٌّ وخطر، فهو يحترق بسرعة ويحتاج متابعة مستمرة، وقد يُسبب حروقًا متكررة. كما أن دخانه يترك طبقة سوداء على اليدين لا تزول بسهولة".
وخلال الهدنة المؤقتة في شهر كانون الثاني/ يناير 2025، دخل الغاز لبعض مناطق شمال القطاع، لتعيش رشا "استراحة قصيرة من المعاناة". لكنها لم تدم، "فبمجرد انتهاء الهدنة، عدنا من جديد للدخان والغبار"، أضافت رشا، مبينةً أنها استشارت طبيبة عيون فوصفت لها قطرة للحساسية كانت تخفف آلامها، لكن حتى هذه، مع غلاء ثمنها، لم تعد متوفرة اليوم.
وتُلخص رشا نصار معاناتها قائلةً إن "الطهي على الحطب لم يأخذ فقط من وقتي وجهدي، بل من صحتي وعينيّ وراحتي أيضًا. وكل ما أتمناه أن تنتهي هذه الحرب، ويعود الغاز، وتعود الحياة لشيءٍ من طبيعتها".
مشكلة انقطاع الغاز واستبداله بالحطب لا تقتصر على الذين بقوا في شمال قطاع غزة، فهي قائمةٌ أيضًا في الجنوب. هبة الشريف (36 عامًا)، النازحة من رفح إلى خانيونس، تخوض التجربة ذاتها، لكن من داخل خيمة صغيرة. تجلس أمام نارٍ مشتعلة تحاول من خلالها تأمين وجبة ساخنة لأطفالها، وسط غياب الغاز وكل البدائل الآمنة.
تقول هبة: "كنت بانتظار دوري لتعبئة أسطوانة الغاز، ثم انهارت الهدنة وأُغلقت المعابر. منذ ذلك الوقت، أُجبرت على الطهي بالحطب، رغم أنني خضعت لعملية في عينيّ وزُرعت لي عدسات تحتاج عناية خاصة".
تعاني هبة من ضيقٍ في الشريان الرئوي، ما يجعل استنشاق الدخان خطرًا إضافيًّا عليها، تقول: "الكحة لا تفارقني، وأحيانًا أعجز عن الكلام. الدواء نادر، والوصول إلى طبيب ليس سهلًا".
وأوضحت هبة أن أحد أطفالها أصيب بحروق هو الآخر بعد انسكاب الشاي الساخن أثناء الطهي، كما أصيبت هي بحروق في يدها وساقها من تناثر الزيت والنار، "فالمكان ضيّق، ومزدحم، والخطر يحيط بنا من كل جانب".
وتُبين هبة أنها تغسل ملابس أطفالها مرارًا، ومع ذلك تبقى رائحة الحطب عالقةً بهم ولا تزول، وأضافت: "حتى متابعة دروس أطفالي باتت مستحيلة. أحيانًا أُضطر لحلّ واجباتهم نيابةً عنهم فقط كي أوفر بعض الوقت للطهي والغسيل. كل شيء أصبح مرهقًا".
وتابعت: "لم أعد أحتمل هذا الروتين المُرهق. أشعر أنني في دوامة لا تنتهي من التعب. استُنزفت صحتي، تآكل دوري كأم، وضاع وقتي في محاولة الطهي وسط النار والدخان. كل ما أريده هو الوقود، الكهرباء، وهدوءٌ يسمح لي بأن أكون أمًّا من جديد".
من جانبه، يؤكد إسماعيل قنوع، طبيب الباطني في عيادات وكالة "الأونروا"، أن الطهي على النار المكشوفة بات مصدرًا مباشرًا لموجة من المشاكل الصحية التي تزايدت بشكلٍ ملحوظ بين النساء منذ بداية الحرب.
ويقول قنوع: "نرصد في العيادات تزايدًا لافتًا في عدد النساء اللواتي يشتكين من أعراضٍ متكررة؛ أبرزها حساسية في الصدر، وسعالٌ مزمن، وصداعٌ دائم، فضلًا عن التهابات في الجيوب الأنفية وتهيّج العيون ومشاكل جلدية مرتبطة بالتعرض المتواصل للدخان".
ويُرجع الطبيب قنوع هذه الأعراض إلى استنشاق أول أكسيد الكربون والمواد العالقة في الهواء أثناء الطهي، خاصة في الأماكن المغلقة التي تفتقر إلى التهوية الجيدة. ويضيف: "مرضى الربو بشكلٍ خاص هم الأكثر تضررًا، إذ يؤدي التعرض اليومي للدخان إلى تدهور حالتهم الصحية، وقد يتطلب الأمر تدخُّلًا دوائيًّا عاجلًا".
يُحذر قنوع من حرق البلاستيك لأغراض الطهي، واصفًا إياه بأنه "الأخطر على الإطلاق"، نظرًا لإطلاقه مركبات كيميائية سامة تُحدث أضرارًا تراكمية في الجهاز التنفسي قد لا تظهر فورًا، لكنها تترك آثارًا طويلة الأمد
وتتفاقم مخاطر الطهي عند اللجوء إلى مواد غير آمنة، فيُحذر قنوع من حرق البلاستيك لأغراض الطهي، واصفًا إياه بأنه "الأخطر على الإطلاق"، نظرًا لإطلاقه مركبات كيميائية سامة تُحدث أضرارًا تراكمية في الجهاز التنفسي قد لا تظهر فورًا، لكنها تترك آثارًا طويلة الأمد.
ويوصي قنوع النساء بعدم التعرض المباشر للنار قدر الإمكان، وتفادي استخدام المواد غير المخصصة للاحتراق، "وإن كان لا بد من الطهي على النار، فليكن باستخدام الخشب الطبيعي فقط، مع الحرص على ارتداء الكمامة وفتح نوافذ أو فتحات تهوية لتقليل استنشاق الغازات الضارة".