بيسان

مشهد من المجاعة في غزة

المصدر تقارير
مشهد من المجاعة في غزة
عبد الكريم السموني

عبد الكريم السموني

صحفي من قطاع غزة

يوم أمس، ذهبتُ إلى منطقة نتساريم حيث تُوزّع المساعدات، على أمل أن أجد أحدًا يبيع كيس طحين بسعر مقبول. لم أكن أتوقع أن أواجه هناك ما يشبه لوحة تراجيدية ترسم واقع غزة المنكوبة.

في المكان ذاته، التقيت بالأستاذ، والصحفي، والمحامي، والمهندس، ومدير قسم في أحد البنوك. كلّهم حضروا بحثًا عن كيس طحين بعدما فقدوا الأمل في وصول المساعدات، وفقدوا القدرة على الشراء وسط الأسعار الخيالية التي وصلت إلى 1400 شيكل نقدًا، أو نحو 2000 شيكل عبر التحويل على التطبيقات.

حين رأيتهم هناك، تشجّعت. قلت في نفسي: ربما أتمكن من الحصول على كيس طحين. انضممت إليهم، وذبت بين آلاف الناس الباحثين عن الخبز، عما يسدّ الرمق.

المشهد الأكثر إيلامًا لم يكن مشهد الجوع، بل دهس الناس تحت عجلات الشاحنات. شهدتُ بأمّ عيني من يُقتل تحت الأقدام، ومن يُصاب بالرصاص. لا أحد قادر على إنقاذ أحد.

جلسنا خلف ساتر باطونٍ مدمّر لا يتجاوز ارتفاعه مترًا. كان الجو هادئًا، وبدأنا نسخر من الحالة، ونسترجع أقصى أمانينا: وجبة شاورما، أو دجاجة محمّرة، أو مجرد جمعة عادية قبل الحرب. كلٌّ بدأ يحكي عن طقوس يوم الجمعة التي افتقدها، عن وجباته، عن عادات أطفاله. صارت الذاكرة ملاذًا في العراء ومن الحرب.

لكن بعد خمس ساعات من الانتظار، انقلب المشهد فجأة، وفجأة بالتوقيت، وليس بعدم حصولها من قبل، فما حدث تكرّر وسيتكرّر.

دوى صوت إطلاق نار كثيف، مخيف. انبطحنا أرضًا. كنت أسمع صوت الرصاص يمر فوق رؤوسنا، وأراه يرتد عن الساتر الذي احتمينا خلفه. كان الضوء الأحمر المنعكس من الرصاص يلمع على وجه الشاب الممدد بجانبي، من شدة قربه منا.

في محيطي، كان صوت الرصاص يختلط مع ترديد الشهادة، وأمنيات بالعودة إلى الأطفال، سالمين بالطبع، لكن مع الطحين.

وكما يتحدث العالم، عن مراجعات في تلك اللحظات التي يقترب فيها الموت، سمعت حوارًا بين شخصين على وقع الرصاص، يدور حول جدوى التعرض للخطر من أجل الطحين، الأول يشكك، والثاني يجادل بقناعة: "مضطر من أجل أطفالي الذين يبكون من الجوع، وليس لدي أي مال لشراء الطحين كل يوم بالأسعار المرتفعة".

وفي وسط كل هذا الخوف، كان الرعب يتصاعد، مع ارتفاع أصوات الدبابات، لا أحد قادر على رفع رأسه لكشف مكانها، فقط لنحدد: هل هي قادمة باتجاهنا، أم تحاصرنا؟ وهل سنخرج من المكان على أقدامنا، أم شهداء، أو أشخاص مجهول مصيرهم؟ كنا نحاول الحصول على قليل من اليقين القصير.

نصف ساعة من الرعب، ثم بدأ إطلاق النار يخف تدريجيًا، وبدأت شاحنات الطحين تتقدم ببطء، رغم استمرار إطلاق النار المتقطع. نهض الناس كأنهم في لحظة بعث من قبور الجوع، واندفعوا نحو الشاحنات.

أما أنا، فشعرت بالراحة فقط؛ لأن إطلاق النار توقف. قررت العودة في الاتجاه المعاكس، وكنت ألتفت بين الفينة والأخرى، أتابع المشهد المربك.

في طريقي رأيت العشرات يحملون السكاكين والأسلحة. بعضهم لحماية نفسه من السرقة، وبعضهم للسرقة نفسها. الطحين صار أثمن من كل شيء.

المشهد الأكثر إيلامًا لم يكن مشهد الجوع، بل دهس الناس تحت عجلات الشاحنات. شهدتُ بأمّ عيني من يُقتل تحت الأقدام، ومن يُصاب بالرصاص. لا أحد قادر على إنقاذ أحد.

كان هناك مجموعات قليلة من النساء، وبالتأكيد رغبن بالعودة إلى أطفالهن، بما يبقيهم على قيد الحياة، ويقلل خطر موتهم جوعًا. أصبن بحالة من الخوف، وفي ظل صوت الرصاص، قال أحد الشبان لهن: "خايف عليكن أكثر من حالي"، وحاول توجيههن للابتعاد عن المكان، خشية من الإصابة.

في ظل المأساة، كان هناك بعض السيدات، في المناطق البعيدة نسبيًا، يطلبن من العائدين القليل من الطحين، ممن استطاع الحصول عليه. استجاب أحد الشبان، أنزل كيس الطحين عن كتفه، وقدم لهن بعضًا منه.

وصل إلى المستشفى 12 شهيدًا ونحو 100 جريح، غير أولئك الذين كانوا في الصفوف الأمامية، ودهسوا، ولم يتمكن أحد من نقلهم. في ذات الوقت، كان ويتكوف، المبعوث الأميركي، يزور واحدة من مصائد المساعدات، ليخرج في اليوم التالي بتصريح يزعم فيه: "لا مجاعة في غزة".

عدت إلى البيت مختنقًا من الداخل. لم أستحم، لم أصلِّ العشاء، لم أتناول غداء. سقطت في النوم كما أنا، مُحمّلًا برائحة الرمل، وأصوات الرصاص.