بيسان

عطش وتلوّث وأمراض.. توقّف البلديات في غزة يعمّق معاناة النازحين

المصدر تقارير
عطش وتلوّث وأمراض.. توقّف البلديات في غزة يعمّق معاناة النازحين
محمد النعامي

محمد النعامي

محمد النعامي، صحفي من غزة

داخل خيام مهترئة، وفي جوٍّ لاهبٍ مشبع بروائح الصرف الصحي والحطام، تتواصل معاناة سكان قطاع غزة ونازحيه. وفي ظل هذا الجحيم اليومي، يعمل الاحتلال على تضييق الخناق أكثر فأكثر على الغزيين، من خلال وقف الخدمات الحيوية، حيث أدخل البلديات في القطاع مرحلة الانهيار الكامل، بعد نفاد الوقود اللازم لتشغيل الحد الأدنى من خدماتها الحيوية، وبعد أشهر من استهداف هذه البلديات وأنشطتها.

ومع توقّف عمل البلديات، توقّف عمل معظم الآبار والمضخات ومحطات التحلية، ما تسبب بموجة عطش غير مسبوقة، إلى جانب المجاعة المستشرية منذ أشهر.

رحلة جلب المياه

في مخيم النزوح بمنطقة "أبو ميري" في دير البلح، يقف إبراهيم اللوح أمام خيمته، متعبًا بعد رحلة طويلة لجلب المياه مع أطفاله.

يقول إبراهيم اللوح إن الحصول على مياه الاستخدام المنزلي معاناة يومية، بعد أن توقّفت خدمات البلدية تمامًا في منطقة نزوحه، بجانب مياه الشرب التي باتت غالية الثمن، والحصول عليها يحتاج أيضًا لقطع مسافات.

وأضاف اللوح، في حديث لـ "الترا فلسطين": "أصبحنا نقنّن استخدامنا للماء بشدة، لأننا نعلم أن لا سبيل للحصول عليه سوى أن نسكب على الأرض من عرق أجسادنا قرابة ما نحمله من مياه، في هذا الحر الذي لا يُطاق. ولنجلب المياه، يجب أن نعبر تجاه الجانب الغربي من مدينة دير البلح، غرب شارع صلاح الدين، بمسافة 3 كيلومترات في الذهاب، ومثلها في الإياب، أنا وأطفالي، كل يوم".

وتساءل مشيرًا إلى طفلته ذات الثمانية أعوام: "هل تستطيع هذه الطفلة، التي تعاني نقصًا في التغذية، أن تحمل قوارير المياه لهذه المسافة يوميًا؟ لماذا لا يتم توفير الوقود وتشغيل مولدات البلديات والآبار؟ وأين مبادرات المبادرين؟ ألا يكفي الجوع والعطش والمرض والحرب والنزوح والتشرّد الذي نعيش فيه؟".

وأوضح اللوح أنهم اضطروا للشرب من مياه الاستخدام المنزلي، مع غلاء المياه الصالحة للشرب وانقطاعها عن الوصول لمناطقهم، ما تسبب بتسمّم أطفاله ودخولهم في حالة مرضية عدة مرات، مناشدًا توفير المياه الصالحة للشرب في كافة مناطق القطاع.

التلوث يصل ذروته

ولم تكن موجة العطش وشحّ المياه المؤشر الوحيد لانهيار البلديات في قطاع غزة؛ حيث ازداد التلوّث بشكل كبير، وتعطّل الصرف الصحي في مناطق واسعة من القطاع نتيجة انقطاع الوقود.

وانعكس هذا الأمر على الوضع البيئي والصحي في غزة؛ حيث زاد انتشار الحشرات الضارة في مخيمات النزوح، ما ضاعف معاناة النازحين، وزاد من الحالات المرضية، خصوصًا بين الأطفال.

كاميرا "الترا فلسطين" رصدت انتشار الصرف الصحي في الطرقات وقرب مخيمات النزوح، نتيجة تعطل أعمال البلديات وسط القطاع.

الطرقات تغرق بمياه الصرف الصحي وسط القطاع

في مخيم آخر غرب دير البلح وسط القطاع، تروي أم محمد (سلوى حسن) قصتها مع أطفالها الخمسة، الذين يعانون بشدة ويعجزون عن النوم بسبب الحشرات التي تنتشر كالنار في الهشيم داخل الخيام، وبين الملابس، وعلى جلود أطفالها.

وقالت أم محمد، في حديث لـ "الترا فلسطين": "لديّ خمسة أطفال، جميعهم باتوا يعانون من أمراض جلدية بسبب الحشرات المنتشرة، وقلة الاستحمام بسبب انقطاع المياه. وعندما جلبنا مياهًا من البحر ليستحمّوا، أصابتهم تسلّخات جلدية بسبب ملوحته، والنتيجة هي فقدان أطفالي حتى القدرة على النوم، دون أن يحرّكوا أجسادهم النحيلة لإيقاف شعور الحكة".

وأوضحت أن حشرات كالبعوض، والقارص، والعناكب، والقمل، وغيرها من الحشرات التي تلدغ وتؤلم وتُسبّب تورمًا، أصبحت تنتشر بشكل كثيف. وأكدت أنها جرّبت إشعال نار ذات دخان كثيف داخل الخيمة لفترة وجيزة لطرد الحشرات قبيل النوم، ولكن رائحة الخيمة تسببت بضيق أكبر لعائلتها.

الحشرات تعمق معاناة الأطفال داخل الخيام

وتابعت أم محمد: "لا يكفي ما نعيشه من معاناة وأمراض، فحتى الدواء مقطوع تمامًا. لم أترك نقطة طبية أو مستوصفًا لإيجاد مرهم يخفّف من آلام أطفالي والجروح التي نتجت عن أمراضهم الجلدية، ولم أجد بسبب الحصار. لا يتوفّر ماء أو طعام أو دواء أو منزل. نعيش في هذا الجحيم منذ عامين، دون أن نرى نهاية لمعاناتنا، ولا من يُشفق علينا".

التلوث ومياه الصرف الصحي بين خيام النازحين

انهيار البلديات

وبشكل متتالٍ، خرجت البلديات عن الخدمة تمامًا، حيث أعلنت بلديات وسط وجنوب قطاع غزة، في 13 تموز/ يوليو الماضي، توقف خدماتها الأساسية، بسبب الحصار الإسرائيلي.

جاء ذلك في بيان مشترك صادر عن بلديات محافظة الوسطى، ومجلس إدارة النفايات الصلبة للهيئات المحلية في محافظات رفح وخانيونس والوسطى.

وذكر البيان أن "بلديات محافظة الوسطى، بالتنسيق مع مجلس إدارة النفايات الصلبة في المحافظات الجنوبية، أعلنت التوقف الكامل لجميع خدماتها الأساسية"، مرجعًا السبب إلى "الانقطاع الكامل للوقود اللازم لتشغيل آبار المياه، ومحطات الصرف الصحي، ومركبات جمع وترحيل النفايات، والمعدات الثقيلة لإزالة الركام وفتح الطرق".

التلوث وبرك الصرف الصحي تملأ الطرقات

وأوضحت البلديات (البالغ عددها 20) أن من بين الأسباب الرئيسية لتفاقم أزمة المياه، استمرار انقطاع مياه "ميكروت" (أحد المصادر الأساسية للمحافظة الوسطى القادمة من إسرائيل) منذ 23 كانون الثاني/ يناير 2025، إضافة إلى انقطاع خط الكهرباء (قادم من الأراضي المحتلة) المغذي لمحطة تحلية مياه البحر المركزية جنوب دير البلح، منذ 9 آذار/مارس من العام ذاته.

ولم يتوقف الانهيار في عمل البلديات في وسط وجنوب القطاع، فبعد أيام، أعلنت بلدية غزة، في 21 تموز/يوليو الماضي، عن توقّف محطة التحلية الرئيسية شمال مدينة غزة عن العمل بالكامل.

من جانبه، قال الإعلامي في قسم العلاقات العامة والإعلام في بلديات الساحل محمود مسلم إن أعمال كافة بلديات القطاع شبه مشلولة تمامًا، بفعل سياسات الاحتلال العقابية، الرامية لإحالة حياة سكان القطاع إلى جحيم. فمنذ بداية الحرب، يعمل الاحتلال على تدمير قدرات البلديات، واستهداف رؤسائها وعناصرها، وقصف آلياتها ومولداتها الكهربائية وتجهيزاتها اللوجستية.

وأضاف في حديث لـ "الترا فلسطين": "نستطيع القول إن أكثر من 90% من أعمال البلديات في قطاع غزة توقّفت تمامًا، و الاحتلال يعمل على إنهائها بشكل كامل. ولذلك يمنع دخول الوقود إلى القطاع، وبالتالي أحدث هذا عجزًا في تشغيل آبار المياه الصالحة للشرب ومياه الاستخدام المنزلي، وكذلك عجزنا عن جمع النفايات من مناطق واسعة في القطاع، وتوقّفت جهودنا لمكافحة انتشار الحشرات والحيوانات الضالة، وإزالة الركام، وإعادة فتح الطرقات، وغيرها من المهام".

إحراق الاحتلال مبنى بلدية المغازي ومخزنها ومولدات الكهرباء التي تشغل الآبار

وشدّد مسلم على أن هذا الوضع انعكس بشكل كارثي على حياة السكان والنازحين في قطاع غزة، حيث باتت مياه الشرب نادرة، والمياه الأكثر استهلاكًا هي مياه ملوثة.

وتابع: "قطع الاحتلال خطوط مياه 'الميكروت' التي كانت تصلنا من الأراضي المحتلة، وعندما تم التنسيق لإصلاحها، أُطلق النار تجاه موظفي البلديات، ودُمّر معظم بلديات القطاع، وبدأ حملة منذ استئناف الحرب، لاستهداف كافة الآليات والجرافات التابعة للبلديات، والنتيجة هي هذه المعاناة التي تُضيّق حياة الفلسطينيين في غزة".