"هذه ليست طريقة إنزال مساعدات، بل طريقة إذلال لشعبنا، وإشاعة الفتنة بين عائلاته، دخيل الله ارحمونا". كلماتٌ قالها الشهيد عدي القرعان قبل أن يسقط عليه أحد صناديق المساعدات الذي لم تفتح مظلته، ما أدى لاستشهاده، بعد يومين فقط من الفيديو الاحتجاجي الذي نشره، وحذر فيه من خطر هذه الطريقة في إيصال المساعدات، على السكان والخيام، وعدم إنسانية هذا الأسلوب، وما يسببه من خلافات، وعدم جدواها ورداءة الطعام المقدم من خلاله.
اعتاد الغزيون على سماع إطلاق نار كثيف بالتزامن مع عمليات الإنزال، إذ تهاجم مجموعات مسلحة خارجة عن القانون أماكن الهبوط، وتمنع الناس من الوصول للطرود، وتقوم ببيعها لاحقًا في الأسواق بأسعار باهظة
عدي القرعان ممرض صمد لعامين في مداواة الجرحى وسط حرب الإبادة، وكان قد نجا من المجازر التي طالت حتى المستشفيات، ليكون استشهاده بسبب إنزال جوي يفترض أنه جاء لإنهاء المجاعة وإنقاذ الغزيين من الجوع، بينما أدى فعليًا إلى إنهاء حياة كثير منهم.
في 26 تموز/ يوليو الماضي، استؤنفت عمليات الإنزال الجوي، في خطوة هدفت إلى تخفيف الضغط الدولي عن الاحتلال، بعد تفاقم المجاعة في غزة وتصاعد الاحتجاجات حول العالم.
موت قادم من السماء
تضجّ منصات التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات تُظهر سقوط الصناديق على خيام النازحين، ووقوع اشتباكات بالأيدي بين السكان حول صناديق المساعدات، نتيجة شح الكميات وتزايد أعداد المحتاجين.
يؤدي تدافع السكان حول صناديق المساعدات إلى خلافات عنيفة، وأحيانًا إلى صدامات دامية. اعتاد الغزيون على سماع إطلاق نار كثيف بالتزامن مع عمليات الإنزال، إذ تهاجم مجموعات مسلحة خارجة عن القانون أماكن الهبوط، وتمنع الناس من الوصول للطرود، وتقوم ببيعها لاحقًا في الأسواق بأسعار باهظة. وفي بعض الحالات، تقع اشتباكات بين هذه العصابات نفسها، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا.

يقول أحمد سمور، أحد النازحين غرب الزوايدة، إن مواقع الإنزال تتحول إلى ساحات اقتتال محزنة، إذ يندفع آلاف الناس نحو عدد قليل من الصناديق التي تلقيها الطائرات، ما يؤدي إلى تدافع كبير، يسبب أحيانًا حالات اختناق ووفاة، إلى جانب المشاكل التي تندلع بسبب الخلاف على أحقية الحصول على الطرود.
وأضاف أحمد سمور أن عصابات مسلحة تسارع للسيطرة على الطرود، مطلقة النار في الهواء وأحيانًا بشكل مباشر، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا.
وأوضح: "في منطقتي غرب الزوايدة، تسقط المساعدات بشكل شبه يومي. منذ ساعات الصباح، تبدأ العصابات المسلحة بالتجول، وتتحرك نحو المناطق التي يُتوقع هبوط المساعدات فيها، ويتجمع فيها عدد هائل من الناس. يبدأون بإطلاق النار عشوائيًا، وضرب الجوعى بأعقاب البنادق، ويتحوّل المشهد إلى غابة، من يحمل السلاح يحصل على الطعام".
وأشار إلى أن بعض أفراد هذه العصابات ينتمون لعائلات معروفة، وإ أخفوا هوياتهم خلف لثام، موضحًا أنهم يمارسون السيطرة على السكان منذ أشهر في ظل غياب القانون والشرطة.
وتابع: "هذه المساعدات تنتهك كرامة الإنسان. مشهد إذلال حقيقي حين ترى الآلاف، من كبار وصغار، رجال ونساء، يركضون بأجسادهم المنهكة خلف المساعدات. من بينهم أساتذة جامعيون وأطباء وشخصيات اعتبارية، يركضون حيثما تقودهم المظلات، وفي النهاية، معظمهم لا يحصل على شيء، سوى الألم النفسي والجسدي نتيجة مسرحية الإذلال الجوي".

وتساءل: "منطقتنا تُعد من أكثر المناطق التي أُسقطت عليها المساعدات الجوية، ومع ذلك، يوميًا يُنقل العشرات إلى المستشفيات بسبب حالات إغماء من شدة الجوع، ولا يزال بكاء الأطفال يُسمع كل ليلة. لم يتغير شيء".
تُصنف المساعدات التي تُسقط جويًا إلى صناديق غذائية، وأخرى تحتوي على خبز أو وجبات جاهزة. ولا يقتصر الضرر على الخيام المتضررة من سقوط الصناديق مباشرة، بل يتسبب التدافع البشري الهائل في تخريب المخيمات، كما حصل في منطقة المواصي جنوب القطاع، وغرب الزوايدة وسط القطاع.
رغم كل هذه المعاناة، تبقى الكميات المسقطة جويًا شحيحة جدًا. إذ تقدر الكمية اليومية بما يعادل حمولة شاحنتين أو ثلاث، بينما يحتاج القطاع إلى أكثر من ألف شاحنة يوميًا لتغطية الاحتياجات الأساسية للسكان.
وفوق ذلك، غالبًا ما تكون نوعية المساعدات رديئة، إذ وُثّق احتواء بعض الطرود على خبز متعفن ومعلبات منتهية الصلاحية، كما حدث في الزوايدة والمواصي.
صناديق الموت
وبات معلومًا للمجوعين في غزة أن جيش الاحتلال يزود الطائرات بإحداثيات لمناطق خطيرة لإلقاء المساعدات فيها، مستدرجًا الجوعى نحو الموت.
وقد وُثِّقت حالات استُهدف فيها من حاول الوصول إلى المساعدات بعد إسقاطها في مناطق سيطرة الاحتلال، مثل محور نتساريم، حيث ارتُكبت مجزرة قرب قصر العدل، حين أطلقت الدبابات قذائفها على المتجمهرين.

كما تم إلقاء مساعدات في مناطق حدودية شرق القطاع، وبعد ذلك تم استهداف كل من اقترب منها، بالإضافة إلى إسقاط مساعدات في قرية القرار جنوب القطاع، المخلاة من السكان وتحت سيطرة الاحتلال.
يقول عبد الرحمن أبو جلال إن هذه المساعدات الجوية تحوّلت إلى "مصائد موت"، إذ تُسقط في مناطق مصنفة "حمراء" (مناطق إخلاء) ويُستهدف فيها كل من يدخل.
وأضاف: "عندما ألقيت المساعدات شرق خان يونس، انطلقنا مسافة طويلة. في الطريق فوجئنا بالدبابات الإسرائيلية التي بدأت بقصف المنطقة. استشهد عدد ممن ذهبوا للحصول على المساعدات، ولا يزال البعض في عداد المفقودين، فلا طواقم إنقاذ ولا إسعاف تستطيع الوصول. حتى المصاب، إن لم يمت مباشرة، ينزف حتى يستشهد، فالدمار في كل مكان، والطريق طويل، والمستشفيات بعيدة".
وأكد أن بعض الصناديق سقطت داخل الأراضي المحتلة، وأخرى في البحر، ولم يتمكن من الوصول إليها إلا من يملك قوارب صيد، واعتبرها ملكًا خاصًا له.

وتابع: "نواجه الموت في كل اتجاه: في مراكز المساعدات الأميركية، في انتظار الشاحنات، في ملاحقة الإسقاطات الجوية، ونواجه الموت جوعًا. حياتنا أصبحت جحيمًا، والعالم يتواطأ على قتلنا بصمت. الحل الوحيد هو توزيع المساعدات عبر الأونروا وعودة عمل الشرطة، غير ذلك، فكل طعام يدخل إلى غزة سيكون مغمّسًا بدمائنا".
شرعنة الموت
تشير التقديرات إلى أن ما يتم إسقاطه لا يغطي أكثر من 0.5% من احتياجات سكان غزة اليومية، ما يعني أن المجاعة مستمرة، ولكن دون الزخم الإعلامي الذي سبق السماح بهذه الإنزالات.
وفي تناقض صارخ مع الواقع، تروّج إسرائيل عبر إعلامها وصفحات جيشها على منصات التواصل مشاهد إسقاط المساعدات، بينما يقول المراسل العسكري لـصحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوآف زيتون، إن الجيش الإسرائيلي يعترف بأن إسقاط المساعدات عبر الجو لم يكن لغرض إنساني فقط، بل لأغراض دعائية.
وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن الإنزالات الجوية "مهينة" ولا تُعالج التجويع، وطالب بفتح الممرات البرية لإدخال المساعدات بكميات كافية.
وأضاف أن هذه الإنزالات لا تُعد حلًا حقيقيًا، بل تمثل حلقة إضافية في مسلسل إذلال الفلسطينيين، وامتهان كرامتهم، وهندسة التجويع بشكل يخدم الأهداف السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
وحذر المرصد من خطورة هذه الطريقة، خاصة في ظل تكدس أكثر من مليوني إنسان في مساحة تقل عن 15% من مساحة قطاع غزة، وهو ما يجعل احتمالات سقوط الضحايا نتيجة الإنزالات مرتفعة جدًا.
وصرّح المفوض العام لوكالة "الأونروا" فيليب لازاريني بأنه بعد خمسة أشهر من المحاولات المستمرة لاستبدال الاستجابة المنسقة من قبل الأمم المتحدة بأربع نقاط توزيع عسكرية إسرائيلية، أصبح الجوع هو القاتل الأحدث في غزة.
بعض الصناديق سقطت داخل الأراضي المحتلة، وأخرى في البحر، ولم يتمكن من الوصول إليها إلا من يملك قوارب صيد، واعتبرها ملكًا خاصًا له
وأكد لازاريني أن الإنزال الجوي للمساعدات لا يمكن أن يكون وسيلة لإنهاء المجاعة (..) "بل هو مجرد ذر للرماد في العيون ويمكن أن يؤدي إلى مقتل مدنيين". وشدَّد على أن إدخال المساعدات برًا هو الحل الأسهل، والأكثر فاعلية، وسرعة، وأمانًا، وكرامةً لأهالي غزة.
من جانبها، أكدت وزارة الداخلية في قطاع غزة أن الاحتلال يستغل إسقاط المساعدات جويًا في هندسة التجويع وتعزيز الفوضى والبلطجة وانتشار اللصوص، مشيرة إلى تسجيل أعداد كبيرة من المصابين وسقوط أثناء التدافع.
وأضافت داخلية غزة أن إسقاط المساعدات جوًّا لا يفي بالحد الأدنى من حاجات المواطنين ولا يمثل إلا قطرة ببحر الحاجة الإنسانية، ولا يقارن بما تحمله الشاحنات التي يمكن أن تدخل برًّا.
وأكدت أن آثار إسقاط مظلات المساعدات السلبية وما تخلقه من فوضى وخسائر أكبر بكثير من أي منفعة للمجوعين.