في أحد أركان مستشفى الأقصى بدير البلح، وقف أبو محمد العزامي مذهولًا أمام جثة ابنه محمد، ابن السبعة عشر ربيعًا، غارقة بالدم وطعنات المجرمين؛ اثنتا عشرة طعنة في الصدر والبطن. هذه كانت نهاية القصة، أمّا البداية كنات مع خروج محمد صباحًا تحت تأثير بكاء إخوته الجياع، ليحصل على طرد مساعدات من المراكز الأميركية، كما يفعل آلاف غيره ممن لم يجدوا ما يسد رمق عائلاتهم. نجا من نيران الاحتلال في نتساريم، لكنه لم ينجُ من قطاع الطرق، الذين اعترضوه في طريق العودة، سرقوا طعامه وهاتفه، ثم تركوه ينزف على قارعة الطريق شمال مخيم البريج وسط القطاع. "لقد كُسر ظهري برحيله، وزاد جوع إخوته"، يقول أبو محمد، "لكن موته شهادة على ظلم الاحتلال، وخيانة وغدر من باعوا ضمائرهم، ولنا موقف أمام الله العادل".
قال المصدر الأمني، لـ"الترا فلسطين"، طلب عدم ذكر اسمه خشية استهداف الاحتلال، إن الوضع الأمني في غزة الآن هو الأسوأ على الإطلاق، ومعدلات الجريمة بلغت أرقامًا غير مسبوقة
ما تعرّض له محمد قد يكون نقطة في بحر مقارنة بما بات يحدث في قطاع غزة من جرائم يرعاها ويوجّهها الاحتلال، وعمل على مدار الـ 21 شهرًا الماضية لخلق البيئة الخصبة لها؛ حيث استهدف منذ بداية الحرب عناصر وضباط ودوريات الشرطة، واستشهد المئات منهم، ولا يزال يعتبرهم من أبرز أهدافه.
وبات السير في طرقات غزة خطرًا ليس فقط بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل والعشوائي، بل كذلك بسبب حالة الفلتان الأمني، حيث خُلقت بيئة موازية للموت، وتُركت الشوارع مفتوحة للعصابات وقطاع الطرق والمجرمين والقتلة والبلطجية وتجار المخدرات.
موقع "الترا فلسطين" استمع لشهادات ناجين من هجمات لصوص وقطاع طرق، وكان القاسم المشترك بين أغلبيتها أنها كانت في مناطق تحت سيطرة جيش الاحتلال، كمحيط نيتساريم، وشارع الرشيد الساحلي في القسم المقابل لمناطق تواجد قوات الاحتلال في مدينة الزهراء، ومنطقة محيط حاجز كوسوفيم وشرق خانيونس في محيط شارع صلاح الدين، وكذلك في محيط مراكز توزيع المساعدات الأمريكية في رفح.
وبحسب شهادات الناجين، فإن الجرائم تتم غالبًا في الليل، ومن خلال مجموعات من 3 إلى 10 أفراد، يستخدمون غالبًا الأسلحة البيضاء والعصي، وفي بعض الأحيان الأسلحة النارية. ولكن شيئًا فشيئًا، باتت مثل هذه الجرائم تحدث في وضح النهار وفي مناطق مأهولة بالسكان.
سلب حليب الأطفال
زياد السموح، من سكان مخيم المغازي وسط القطاع، تعرّض للنهب والاعتداء في وضح النهار، وهو عائد من رفح، حيث تعرّض له ثلاثة لصوص وهاجموه. ورغم مقاومته لهم، إلا أنهم تمكنوا من سلبه كل ما يملك.
سرد ما حصل معه، والقهر يخنق صوته، في حديث لـ"الترا فلسطين"، بالقول: "خرجت في رحلة استمرت ليومين من مخيم المغازي وسط القطاع وحتى مركز توزيع المساعدات الأميركية (شاكوش) في رفح. وبعد أن كدت أن أُصاب برصاص الاحتلال، تمكنت من الحصول على طرد غذائي، واستبدلت ثلاثة كيلو طحين من أصل أربعة بعلبة واحدة من حليب الأطفال، لأن طفلتي الرضيعة لا يتوافر لها غذاء، ومع المجاعة لا تتمكن والدتها من إرضاعها. وأنا في طريق العودة على شارع الرشيد بين رفح وخانيونس، هاجمني قطاع الطرق بالأسلحة البيضاء، وأصابوني بجروح في الوجه والرقبة واليد. توسلتهم أن يتركوا علبة الحليب فقط، ولكن عبثًا". ثم عاد زياد بجروحه وقهره إلى خيمته ولجوع طفلته الرضيعة.
وتابع: "لا أدري أيهما أصعب؛ قهري على طفلتي الرضيعة التي سُلب غذاؤها، وقد يُباع لصانعي المثلجات كما جرت العادة، أم على كرامتي التي انتُهكت وهي أغلى ما أملك، من قِبل أشخاص خائنين ومجرمين وأنذال. لهذا يجب أن تتوقف الحرب، ويجب أن تعود الشرطة وقوى الأمن لمحاسبة المجرمين وضبط القطاع. الحياة لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل".
جريمة في محيط الاحتلال
أما إبراهيم حرز، فقد روى شهادته عن هجوم تعرّض له هو وآخرون أثناء عبورهم شارع الرشيد الساحلي من مدينة غزة نحو المنطقة الوسطى. وقال إنه كان يستقل عربة توك توك عائدًا إلى خيمته غرب قرية الزوايدة وسط القطاع. وبعد تجاوز دوار النابلسي ومنطقة الشيخ عجلين، استغلت مجموعة من المجرمين وصول العربة إلى منطقة وعرة تستلزم الإبطاء الشديد بالسرعة. فقام أحدهم بمهاجمة السائق بأداة حادة، وتولى الآخرون – بعضهم مسلح بأسلحة نارية – سلب كافة مقتنيات الركاب.
وأضاف في حديث لـ"الترا فلسطين": "هددونا بإطلاق النار، ومنعونا أن نأخذ أيًا من أغراضنا التي قدمنا فيها من غزة. سرقوا أيضًا ما نملك من أموال وهواتف. كان معنا سيدة، قاموا بضربها لسرقة ما تملكه من مجوهرات، بعد أن سرقوا حقيبتها ومقتنياتها. ثم صعد هؤلاء المجرمون على العربة، وقادوها بعد طرح سائقها أرضًا، ودخلوا من طريق مدينة الألعاب (شارم بارك)، وهي منطقة تتواجد فيها قوات الاحتلال".
وأضاف: "الهجوم حصل بالتحديد في المنطقة ذات السيطرة الكاملة للاحتلال؛ على الجانب الأيمن في البحر بارجاته وقواربه الحربية، وعلى الجانب الأيسر دباباته وقناصته، وفوقنا طائراته. ويرصد مجموعة مسلحة على مقربة منه ولم يهاجمها، بل وتدخل بالعربة إلى مناطق تمركزه".
حاورت "الترا فلسطين" مصدرًا أمنيًا يعمل في جهاز المباحث العامة وسط القطاع، للوقوف على خفايا العمل الإجرامي المنظم الذي يغزو مناطق القطاع.
الوضع الأسوأ
وقال المصدر الأمني، الذي طلب عدم ذكر اسمه خشية استهداف الاحتلال، إن الوضع الأمني في غزة الآن هو الأسوأ على الإطلاق، ومعدلات الجريمة بلغت أرقامًا غير مسبوقة. وهذا ما كان يخطط له الاحتلال وينفذه لأجله؛ المجازر بحق عناصر الأمن وعائلاتهم، ويسلّح العصابات، وبث حرب الشائعات.
وأضاف: "الاحتلال هو السبب الأول والرئيس للجريمة المستشرية في القطاع الآن، وأدواته في ذلك عصابات منظّمة، كعصابة أبو شباب التي باتت الذراع القذر للاحتلال، وعصابات عائلية تتكوّن من أفراد عائلات معينة تنهب المساعدات، وتعتدي على عائلات أخرى، وتُهيمن على مناطق محددة، ومجموعات من قطاع الطرق، وكذلك المجرمين المنفردين. جميع هذه التشكيلات تساهم في الفلتان الأمني والمجاعة والتضييق على حياة الفلسطينيين في غزة".
وحول الواقع الأمني الراهن في غزة، أوضح الضابط أنه مع غياب القانون واستهدافات الاحتلال المتواصلة للمنظومة الأمنية في غزة، بات هناك جرأة على القتل وارتكاب الجرائم، واستخدام الأسلحة النارية والبيضاء، وترويع الآمنين والبلطجة. وبشكل يومي، هناك ضحايا نتيجة هذه الجرائم الشنيعة.
وشدّد على أن قطع الطرق من أخطر الظواهر المنتشرة في القطاع، ولم تعد محصورة في مناطق سيطرة الاحتلال، بل تطورت لتصبح على شكل شبكات، وجزء كبير منها موجّه مباشرة من الاحتلال. وتابع: "اعتقلنا أحد قطاع الطرق بعد أن كان يسلب حاجيات العابرين بالقوة في محيط تبة النويري وسط القطاع، وحققنا معه، واعترف بقيامه بالعديد من عمليات السرقة، واستخدام أسلحة نارية وأسلحة بيضاء في عمليات قطع الطريق. وكان من بين ضحاياه نساء، وأقرّ أنه كان يهاجم حتى النساء، بجانب تعاطيه وترويجه للمخدرات".
وكشف أن بعض العصابات باتت تجبر نازحين على دفع إيجار لمكان خيمهم، رغم أن المناطق التي وُضعت فيها أراضٍ حكومية أو شواطئ شؤونها تابعة للبلديات، ولكن بشكل هجومي وبلطجي يُخيّر النازح إما الدفع أو مغادرة المكان. وأضاف: "من الواضح أن هناك ممارسات تقوم بها العصابات هدفها الوحيد التضييق على الناس، وإفقادهم الشعور بالأمان، وزيادة معاناتهم في الحصول على الطعام والمأوى. وهذه، بالأساس، سياسات من الاحتلال".
ونوّه إلى أن أحد أشكال الفلتان الأمني هو تصاعد الخلافات بين العائلات وتطوّرها إلى شكل أكثر عنفًا. بات من السهل أن يستخدم المتخاصمون الأسلحة النارية في نزاعاتهم، وما ينتج عنها اشتباكات مسلحة، في مناطق مكتظة بالنازحين والخيام، مما يسفر عن ضحايا. وكل ضحية يقابلها ثأر آخر؛ ما أوصل القطاع إلى هذه الدوامة من العنف والدماء.
وأكد المصدر الأمني أنه توثيق الجرائم، وإجراء تحقيقات أولية بما تتيحه الإمكانيات الحالية. وفور انتهاء الحرب، ستتم محاسبة كل مجرم، وستبدأ تحقيقات أوسع، ولن يُسمح باستمرار الفلتان الأمني، حسب وصفه.