لم يحتمل المصور الصحفي فادي ثابت ثابت آلام الجوع التي تفتك بجسد طفله الوحيد، وزوجته الحامل في شهرها الثامن، مما دفعه إلى اتخاذ قرار يصفه بأنه يعادل في ألمه "خروج الروح من الجسد".
قبل بضعة أيام أعلن ثابت (35 عامًا) على صفحته الرسمية على "فيسبوك"، أنه يعرض أرشيفه الصحفي للبدل على كيس طحين، وجاء في منشوره، الذي حظي بتفاعل على نطاق واسع: "أنا المصور فادي ثابت… أعرض أرشيف 20 عامًا من ذاكرة غزة المصوّرة، مقابل كيس طحين لأطفالي الجائعين". وختم منشوره: "للمهتمين والمعنيين الرجاء التواصل معي.. وإذا متنا جوعا أنا وأطفالي، فأنتم خصماؤنا يوم القيامة".
الصحفي في غزة دفع ضريبة باهظة في سبيل تمسكه بأداء رسالته المهنية والإنسانية السامية
تجربة قاسية
يقول ثابت لـ "الترا فلسطين" منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023: "لم أتوقف عن العمل ولو ليوم واحد.. هذه الحرب أنهكتنا، ولكن للمجاعة وقع آخر أشد ألما وأثرا في النفس".
يعمل فادي مصورًا صحفيًا حرًا لصالح عدة وسائل إعلام خارجية، وشارك بصوره التي تعكس جوانب مأساوية من الحياة البائسة لنحو مليونين و300 ألف فلسطيني في معارض وفعاليات دولية.
في اليوم الأول لاندلاع الحرب دمرت قوات الاحتلال منزل ثابت في منطقة "جحر الديك" جنوب شرقي مدينة غزة، وخسر تحت الأنقاض أغلبية كاميراته ومعدات التصوير الخاصة به.
ورغم هذه الخسارة تمكن ثابت من استرجاع بعض المعدات الخاصة به التي كانت بحوزة أصدقاء، وانطلق في عمله مصورًا يوثق أوجهًا من المعاناة التي تعصف بالغزيين، وبدا تركيزه واضحًا على التقاط الصور التي تظهر مأساة المدنيين من أطفال ونساء، خاصة في رحلة البحث الشاقة والمميتة عن الطعام.
ومع مرور الشهور، واشتداد المجاعة وجد ثابت نفسه أحد ضحايا "سياسة التجويع الإسرائيلية الممنهجة"، بحسب وصف هيئات محلية ودولية.

أرشيف صور مقابل الطحين
ويقول: "الصحفيون في غزة كانوا على مدار شهور الحرب فدائيون ومقاتلون على جبهة الحقيقة.. نعمل على مدار الساعة في توثيق ورصد جرائم الإبادة من قتل وتجويع، كي لا يكتب علينا الموت في صمت، حتى وجدنا أنفسنا أيضا في قلب الكارثة".
لم نسلم من القتل، وقد استشهد وأصيب منا الكثير، والآن نواجه الموت جوعًا مع أسرنا وأطفالنا، وهذا ما دفعني إلى عرض أرشيفي وهو "كنزي الثمين" للبدل على كيس طحين، وبألم شديد يضيف فادي: "طفلي وزوجتي الحامل يحتاجون الخبز والطعام أكثر من حاجتي وحبي لعملي ولأرشيفي".
ويقول ثابت إن صحفيين اضطروا لبيع كاميراتهم ومعدات لهم من أجل توفير السيولة النقدية لتدبير الاحتياجات الأساسية لأسرهم، ويضيف: "معاناتنا مركبة، ونعاني في كل تفاصيل حياتنا اليومية، حيث أزمة السيولة، وإن توفر المال فالسلع في الأسواق شحيحة للغاية وأسعارها باهظة ومضاعفة".
وتساءل ثابت: "نحن نستطيع أن نتحامل على أنفسنا، ونقاوم جوعنا، لكن ماذا أقول لطفلي عندما يصرخ من الجوع ويطلب كسرة خبز"، وهو يشير إلى أنه يشعر بعجز يفطر قلبه عندما لا يستطيع تلبية مثل هذا الطلب البسيط لطفله الوحيد.
وواصل القول، إنه ليس سهلًا على الصحفي أن يتخلى عن معداته التي تمثل بالنسبة له سلاحه الشخصي، ولكن "الكارثة كبيرة، والعالم خذلنا، ولم يعد أمامنا إلا أن نبدل كاميراتنا على كيس طحين، أو درعا لا يحمينا على ما يسد رمق أطفالنا".
"عيني الثالثة" مقابل الطحين
لم يكن ثابت الوحيد الذي يلجأ لهذا الخيار القاسي، وسبقه زميله المصور الصحفي بشير فتحي أبو الشعر، الذي لاقى أيضًا منشور له على منصات التواصل الاجتماعي يعرض فيه كاميرته للمقايضة على كيس طحين لسد جوع أطفاله تفاعلًا واسعًا.
لدى أبو الشعر (42 عامًا) أسرة مكونة من 7 أفراد، بينهم طفلته راما التي تعاني من مرض مزمن، ويقول لـ "الترا فلسطين": "كان هناك مثلا شعبيًا يقول: محدش بيموت من الجوع، لكن هذه الكلمات سقطت على حدود قطاع غزة، فكل شيء ينبض بالحياة مات في غزة من الجوع، ومن تبقى منا على قيد الحياة فهو يصارع الموت".
يعمل أبو الشعر مصورًا صحفيًا حرًا لصالح عدة قنوات ووسائل إعلام خارجية، ويضيف: "تتغول المجاعة في غزة المحاصرة يومًا بعد يوم وتحصد أرواحًا انهكها الوجع والجوع".
وتابع: "هنا في غزة نموت بكل الوسائل، قتلا بالقصف، وتجويعا وتعطيشا .. كلها أدوات يستخدمها الاحتلال بحق المدنيين، ونحن كصحفيين جزءا من هذا الشعب المكلوم".
وأثرت المجاعة على أبو الشعر، وفقد عدة كيلوغرامات من وزنه، ويعتريه الحزن الشديد على أسرته وأطفاله، الذين لم يتذوقوا الطعام منذ عدة أيام.
وبكلمات ممزوجة بكثير من الألم يقول: "أضحت أجسادنا متهالكة واصبحنا لا نقوى على الحركة، ونقاوم من أجل الاستمرار في العمل، وقد فرغت الأسواق من السلع والمواد الغذائية، ونرى أطفالنا يتضورون جوعا ويصرخون من شدة الحرمان، ونحن نبكي لعجزنا عن سد جوعهم (..) لم تعد فينا طاقة لتحمل هذه الآلام، ورؤية أطفالنا يواجهون الموت".
وأضاف: "نخرج كل يوم نسير بخطوات متثاقلة بطيئة من شدة الجوع لنوثق معاناة المواطنين من قهر المجاعة، وقد تركنا أطفالنا من خلفنا أيضا جائعون مثل الجميع".
ويواصل أبو الشعر سرد تجربته المؤلمة، ويتساءل: "ما فائدة الصورة إذا لم تؤثر في هذا العالم الصامت المتواطئ.. وما فائدة العمل إذا لم يسد جوع أطفالي"، لكنه سرعان ما يستحضر مسؤوليته اتجاه الضحايا وضرورة مواصلة العمل من أجل فضح الجرائم المروعة التي ترتكب بحقهم من قبل الاحتلال.
ويقول: "عندما كتبت إعلان مقايضة كاميرتي على كيس طحين أصابتني غصة في قلبي؛ لأنه يعز علي فراقها فهي رفيقتي في كل دروب التغطية والتوثيق وعيني الثالثة التي أرى العالم بها وانقل فيها رسالة شعبي المجوع".
وتابع: "نعم لقد كان قرارًا صعبًا، ولكن إذا كان الثمن إنقاذ أطفالي من الموت فإنني راض عن قراري، وعهدي أن أبقى حريصًا على أداء رسالتي الصحفية حتى لو اضطررت لاستخدام القلم بدلًا عن كاميرتي".

بيئة معقدة وغير آمنة
بدوره، يقول نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين تحسين الأسطل لـ "الترا فلسطين"، إن الصحفي في غزة يعمل في "بيئة معقدة وغير آمنة"، فرضتها ظروف الحرب غير المسبوقة، والمجاعة المفتعلة التي تفتك بكل الفئات، مدنيون من أطفال ونساء ومسنين، وأطباء وصحفيين، وكل إنسان هنا في القطاع المحاصر.
ويشير الأسطل إلى أن الصحفي في غزة دفع ضريبة باهظة في سبيل تمسكه بأداء رسالته المهنية والإنسانية السامية، وآخرهم المصور الصحفي آدم أبو هربيد، الذي يرفع باستشهاده عدد الصحفيين الشهداء إلى 232 صحفي، بينهم صحفيات، علاوة على عدد كبير من الجرحى ومنهم من أصيب بإعاقة دائمة.

وازداد واقع الصحفيين سوءا مع اشتداد المجاعة، حتى لم يعد الصحفي في غزة يكابد من أجل الاستمرار في عمله الميداني، وملاحقة الأحداث التي تتوقف هنا وهناك بالقصف والتجويع، بينما هو نفسه وأسرته يعانون من المجاعة المستشرية، بحسب الأسطل.
ويقول إن ما يتعرض له الصحفيون في غزة غير مسبوق، وليس له مثيل في أي مكان في العالم، والعدد الكبير من الشهداء والضحايا هو الأكبر في تاريخ الخسائر البشرية التي تعرضت لها الحركة الصحفية، حيث لم يسجل مثل هذا العدد خلال تغطية حدث ما كالحرب التي تتعرض لها غزة على مدار عامين متتاليين.