في عالمٍ يتسارع نحو الابتكار، تتناثر أخبار البدائل كأملٍ جديد: طاقة شمسية تُضيء مدنًا بلا انبعاثات، وسيارات كهربائية تُقلل من وطأة التلوث، وزراعة عضوية تُعيد للإنسان صحته المسلوبة. حتى الطب والتعليم يصعدان سلّم التطور، كأنما البشرية تُجدِّد عهدها مع الحياة الأفضل. لكن في غزة، حيث الحرب تُعيد كتابة قواعد البقاء، ويصبح "البديل" مرادفًا للزحف إلى الوراء. هنا، يُبتكر الوقود من بقايا الخشب والبلاستيك، ويُستخرج الدواء من الأعشاب، ويُصارع الجوع بوجباتٍ لم تَعُد تُغذي الجسد بقدر ما تُطفئ رمقًا. وبينما يبحث العالم عن رفاهية العيش، يبحث الغزيّ عن فتات الحياة.
ورغم هذه الزاوية المظلمة، حيث يبدو كل شيء ضدهم، يرفض الغزيون الاستسلام. هم لا يسعون لمجرد البقاء، بل يصرّون على العيش بكرامة. في كل موقدٍ بدائي، وفي كل دواءٍ مُستخلَص من الأرض، وفي كل لقمةٍ تُنتزع من فم الجوع، تكمن إرادة لا تُقهَر. إنهم يخترعون الحياة من العدم، لأن الأمل عندهم ليس خيارًا، بل ضرورة.
دخل العدس في كل وجبة يمكن تخيلها، "الخبز بالعدس، الفلافل بالعدس، الدقة بالعدس، اليخنة بالعدس، الشوربة بالعدس"
بسكويت الحرب: العدس كلمة السر
من قلب غزة، ووسط الدمار الذي خلّفته الحرب، تجلس سمية سالم (36 عامًا) أمام موقدها البدائي المصنوع من صفائح معدنية متآكلة، تناور بين ألسنة اللهب وهي تُعدّ "بسكويت العدس" الذي أصبح أشبه بمعجزة تمنح أطفالها الخمسة لحظات فرح نادرة في زمن يحاول سلبهم حتى حقهم في الابتسامة.
تقول سمية بصوت خافت يتخلله الألم: "الفكرة جاءتني من جارتي بعد أن يئسنا من الحصول على أبسط مقومات الحياة". تشرح كيف تطحن العدس مع بقايا المعكرونة لإخفاء اللون الأحمر، ثم تضيف ما تيسر من بهارات المنزل. وتقول: "اضطررنا لاستبدال السكر بالملح بعدما تجاوز سعره 130 دولارًا للكيلوغرام".
أصبح العدس الوجبة الأساسية للعائلة أربع مرات أسبوعيًا، ليس لأنه الأرخص، بل لأنه الخيار الوحيد. تمسح دموعها وهي تتذكر: "في الشتاء الماضي، اضطررنا لأكل الأعشاب ونبات الصبر، حتى شوكه لم يعد يردعنا عن الجوع".
في زاوية من منزلها المهدّم جزئيًا، تحاول سمية خلق دفء لأطفالها. وتستمر في القول: "في الليالي القاسية، ننام جميعًا في غرفة واحدة، نستمع لقصص الخيال ونحاول تجاهل صوت القصف". تشير إلى رسومات أطفالها على الجدار المتهالك، وتقول: "هذه محاولتنا للحفاظ على بقايا طفولتهم".
ورغم كل المعاناة، ترفض سمية الاستسلام، قائلةً: "قد لا أملك طعامًا كافيًا أو سقفًا آمنًا، لكني سأظل أحاول إسعاد أطفالي ولو بقطعة بسكويت .الحرب قد تسلبنا كل شيء، لكنها لن تسلب إنسانيتنا وقدرتنا على الإبداع حتى في أحلك الظروف".
"كباب البقوليات".. الابتكار ضحية الجوع
في مخيم دير البلح، حيث تتداخل أصوات الحياة اليومية مع أصداء القصف البعيد، تجد فاتن مهنا (40 عامًا) نفسها محظوظة مقارنةً بغيرها من النازحين. فبعد أن دمّرت الحرب منزلها في غزة، وجدت ملاذًا في بيت أخيها المغترب، ذلك البيت القديم الذي أصبح ملجأها الوحيد من شبح الخيام الذي يطاردها منذ بداية العدوان. تقول فاتن بامتنان: "هذا البيت صغير لكنه يحمينا من الحر والبرد، وفيه بعض الأمان الذي فقدناه".
عند الحديث عن الطعام، تتحول ملامح فاتن إلى تعبير أكثر جدية. فقد حاولت جاهدة ترشيد استهلاك المعلبات التي جمعتها بصعوبة خلال شهور الهدنة، لكن المخزون نفد سريعًا تحت وطأة الحصار والجوع. واضطرت، كغيرها من الأسر الغزية، إلى الاعتماد على بدائل تُعرف اليوم بـ"وجبات الحرب"، مثل الخبز المصنوع من خليط الأرز والعدس والمعكرونة، و"الدقة" التي تحولت إلى وجبة رئيسية. وتقول: "الدقة الآن مسمار البطن في هذه المجاعة"، تقول فاتن بمرارة، "نأكلها رغم ما تسببه من آلام، لأنها تخدعنا بالشبع ولو لساعات قليلة".
لكن المعاناة لا تقتصر على الطعام. فزوجها يخاطر بحياته يوميًا، يخرج مع جيرانهم إلى مناطق خطرة مثل الشاكوش في رفح أو نتساريم وسط القطاع، بحثًا عن أي طعام يمكنهم الحصول عليه. "أحيانًا يعود بالماء فقط"، تقول فاتن بصوت خافت، "ولقد أصيب مرتين وهو يحاول تأمين لقمة العيش لنا، لكنه لا يتوقف، لأن الجوع لا يعرف الرحمة".
في لحظات نادرة من الفرح وسط هذه المأساة، تبتسم فاتن وهي تتذكر كيف أعدت "كباب البقوليات" لعائلتها. تصف بحماس كيف تنقع الفاصولياء والعدس المجروش طوال الليل، ثم تطحنهما وتضيف البهارات لتحاكي طعم الكباب الحقيقي. وتقول: "في الأيام الجيدة نضيف علبة لحم لتحسين الطعم"، زتوضح فاتن، "في البداية رفضه أطفالي، أما الآن فقد أصبح وجبة ثمينة ننتظرها بفارغ الصبر".
لكن ليس كل محاولاتها في المطبخ تكللت بالنجاح. فحين حاولت صنع مهروس البازلاء كبديل عن الفول أو الحمص، لم يستطع أحد في العائلة تحمّل طعمه. وأضافت: "حاولنا إقناع أنفسنا بأنه طعام عادي، لكن طعمه كان لا يُحتمل".
في هذا البيت القديم، بين جدرانه المتشققة ورائحة البقوليات التي تملأ المكان، تواصل فاتن نضالها اليومي ضد الجوع واليأس. تصنع من لا شيء وجبات تملأ البطون، وتخلق من البساطة لحظات فرح صغيرة. إنها كغيرها من نساء غزة، تثبت يوميًا أن الحياة تستمر رغم الحرب، وأن الأمل يمكن أن يولد حتى من بين ركام الدمار.
"الحلقوم الكذّاب".. طعم بلا حياة
أمام خيمة متواضعة في منطقة المواصي بخانيونس، يقف قاسم السيد (12 عامًا) يحدق في الأفق، ينتظر عودة والده الذي غادر منذ الليل إلى منطقة الشاكوش الخطرة في رفح، أملًا في العودة ببعض المواد التموينية. يقول الصبي بصوت هادئ: "أعلم أن الذهاب هناك يعني الموت، لكن البقاء بلا طعام موت آخر.. ووالدي يفضل أن يموت وهو يحاول إنقاذنا من الجوع".
إلى جانبه، تجلس أخته تسنيم (18 عامًا)، التي تحملت مسؤولية العائلة بعد أن قتلت الحرب والدتها. تقول الشابة وهي تفرك يديها المتعبتين: "تغير كل شيء.. صرت أنا المسؤولة عن المأكل والملبس وترتيب الخيمة"K تنتظر عودة والدها بقلق، لكنها تدرك أن عودته ستكون بداية معاناة جديدة: "سأبدأ فورًا في ابتكار ما يمكن صنعه من المواد التي يحضرها".
لا تذهب قطعة معكرونة واحدة في هذه العائلة دون استغلالها لأقصى حد. توضح تسنيم: "نقسم الكمية قسمين: نصفها نصنع منه خبزًا إن لم يتوفر الدقيق، والنصف الآخر أحمصه بالزيت ليكون 'شيبس' يبيعه أخي". تبتسم وهي تصف العملية: "لا سر في ذلك.. ألقي فقط المعكرونة في الزيت، ويخرج الشيبس ونتحايل بذلك على حاجتنا للمقرمشات".
وليس "شيبس المعكرونة" هو الابتكار الوحيد، فهي تعتمد أيضًا على الحمص المعلب لصنع "القضامة"، نوع من المكسرات البديلة. "تحتاج حرفية عالية على النار"، تقول وهي تحرك يديها ببراعة، "لا يوجد هنا صبر أطول من صبري".
العدس.. وحيد متعدد على الموائد
في هذه الخيمة، دخل العدس في كل وجبة يمكن تخيلها، "الخبز بالعدس، الفلافل بالعدس، الدقة بالعدس، اليخنة بالعدس، الشوربة بالعدس"، تعدّدها بسرعة. حتى الحلويات لم تسلم من هذا المصير، فذات يوم طلب أخوها الصغير حلوى، فصنعت له "حلقومًا كذّابًا" من العدس.
"الحرب علمتنا ما لم يكن في الحسبان"، تقول وهي تشرح طريقة التحضير: "أنقع العدس لأطول مدة ممكنة، ثم أطحنه وأضيف الماء شيئًا فشيئًا حتى يصبح كالشراب، ثم أطهوه على نار هادئة وأضيف النشا". أما السكر، فاستعاضت عنه ببعض الأدوية التي توفر حلاوة، وملونات طعام بسيطة: "لا أقول إنه رائع، لكنه كل ما يمكننا فعله في زمن لم يعد فيه شيء متاح".
تمر أيام كثيرة لا تأكل العائلة سوى "المعكرونة المسلوقة"، فالخضروات أصبحت رفاهية، والبهارات نادرة، حتى الصلصة التي كانت تعوض عن الطماطم صارت شحيحة. تقول الشابة بمرارة: "بات العدس هو اللحمة والدجاج والخضار.. هو كل شيء".
لأجل من تشوّشت ذاكرته، نذكّره بأن الاحتلال الإسرائيلي أغلق معابر قطاع غزة بشكل كامل منذ الثاني من آذار/مارس الماضي، واستمر الإغلاق حتى لحظة كتابة هذا التقرير، قاطعًا ما يزيد عن أربعة أشهر لم يُسمح خلالها إلا بدخول كميات ضئيلة لا تكفي لسد رمق الاحتياجات الأساسية. هذا الحصار المحكم لم يمنع فقط دخول الغذاء والدواء، بل امتد أثره إلى أبسط البدائل التي ابتكرها الغزيون لمواجهة الجوع.
حتى "العدس"، الذي صار عماد الموائد الفقيرة، بات شحيحًا، و"المعكرونة"، التي كانت تُطحن لصناعة الخبز أو تُحمّص لتصبح بديلًا للمقرمشات، ارتفع سعرها إلى حد بات بعيدًا عن متناول معظم العائلات. الأعشاب نضبت، والبهارات شبه اختفت، وكل بديل صغير أصبح حملاً إضافيًا في معركة البقاء.
بهذا الإغلاق الطويل، لم يعد الجوع نتيجة حتمية للحرب فحسب، بل أداة ضغط ممنهجة وسلاحًا صامتًا يُستخدم لكسر الإرادة. وإذا استمر هذا الخنق الممنهج، فإن حتى تلك البدائل التي كانت تُبقي على بصيص حياة، قد تختفي تمامًا، تاركة سكان القطاع في مواجهة العدم.