داخل الخيمة المهترئة، تتوسط ديالا شقيقتيها حنين وماريا وتدندن الألحان الموسيقية، التي يُنتجها والدهن عليّ الجوجو (39 عامًا) بعدما أفقدتهم الصواريخ الإسرائيلية الأستوديو المنزلي والمعدات الموسيقية.
عليّ الجوجو، مُنتج موسيقي قضى أكثر من 18 عامًا في التأليف والتوزيع الموسيقي والهندسة الصوتية، وواحد من عشرات الموسيقيين الذين أفقدتهم حرب الإبادة معداتهم الموسيقية وألحانهم.
يقول علي: "يمنحني العمل الموسيقي الهروب من ضغط الحياة والواقع اليومي المُعاش إلى عالمي الخاص الذي أعيش فيه الأحلام وتحقيق الذات بالألحان الموسيقية التي تمنحني التفاؤل والأمل وتُخرجني من أجواء القصف والقتل والدمار".
يتابع الجوجو وتعلو صوته تنهيدة وغصّة: "حينما أخرجتنا كثافة الضربات الجوية الإسرائيلية، ونزحنا جنوب القطاع، لم أضع في حقيبتي الصغيرة سوى كرت صوت، ومايك، وهيدفون، فيما تركت كافة معداتي الموسيقية والصوتية داخل الأستوديو من البيانو والسماعات، ومعدات التسجيل الصوتي".
يفقد موسيقيون في غزّة أدواتهم ومصادر رزقهم، لكنهم يواصلون العمل وسط النزوح والقصف. ليست الموسيقى ملاذًا فحسب، بل وسيلة للتعبير في غياب كل شيء آخر
ويعود عليّ بذاكرته إلى ما قبل حرب الإبادة حيث كان يمارس عمله ويعمل لصالح شركات إنتاجية موسيقية في عدة دول عربية، ثم أفقدته حرب الإبادة جميع الزبائن، قائلًا: "خسرت الاستوديوهات التي جهزتها بتكاليف تزيد عن 20 ألف دولار، وعملائي في شركات الإنتاج الخارجية، بالإضافة إلى فقدان التواصل مع 155 طالبًا، يتابعون الكورسات على منصة Udemy الأمريكية، وتضرر صناع الموسيقى الذين يحاولون تطوير ذاتهم بالمعلومات التي أزودهم بها، وكوني أُقيم في غزَّة تم إيقاف حسابي بالمبالغ المالية التي لم أستطع الحصول عليها حتى اللحظة".
نجح عليّ إلى حد ما في التغلب على المعوقات اليومية، محاولًا إيصال ألحانه الموسيقية الممزوجة بأصوات الانفجارات وأنين الضحايا داخل غزَّة. ويحدثنا الجوجو، بالقول: "الخيمة قطعة من القماش والنايلون، لا توفر أدنى مقومات البيئة الموسيقية من العزل الصوتي، وحتى الأدوات الموسيقية التي نزحت بها، لم تفِ بالغرض ولا تستطيع إنجاز عمل موسيقي واحد متكامل، مما دفعني للتوقف عامًا ونصف، وقررتُ العودة بعد دعم أصدقائي وعدم الاستسلام ولأجل إخراج طفلاتي من أجواء الحرب والتخفيف عنهن".
فيما يقف الفنان الفلسطيني أحمد نبيل مراد أمام عدد من طلابه الأطفال الغزّيين النازحين إلى مصر، على مسرح الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعدما دربهم وجهزهم تحت إشراف معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى للغناء بصوتٍ واحد: "سلامٌ لغزَّة سلامٌ سلام، سلامٌ لكل العيون الحزينة، تفيضُ دُموعها بأسًا وعِزة، سلامٌ سلامَ لغزَّة سلام".
ويقول مراد: "في بداية النزوح جنوب القطاع، قضيت أول ثلاثة أشهر وصوتي مبحوح، وشعرت حينها بالإحباط الشديد، وخفت أن يختفي صوتي للأبد، فهو مصدر إبداعي ورأسمالي، ورغم شح وغلاء الأدوية التي بصعوبة كدت أحصل عليها، إلا أن صوتي أخذ أشهرًا ليعود إلى طبيعته".
ويكمل: "في نزوحي إلى مواصي خانيونس، حاولت التخفيف عن الأطفال بغناء الأغاني الوطنية برفقتهم، فالموسيقى والغناء دفعا الأطفال لتفريغ الكبت النفسي والتوتر الذي يمرون به، وإدخال الفرحة إلى قلوبهم".
أحيا الفنان أحمد نبيل مراد العديد من الأغاني والأناشيد والأوبريتات المسرحية داخل فلسطين وخارجها في لبنان، والسودان، ومصر. ويُخبر "الترا فلسطين"، أنه "قبل الحرب كُنت أجهز لتنفيذ وإطلاق ألبومي الخاص، حيث سجلت 5 أغانٍ، ومتبقٍ جزء مكتوب وملحن، ولكن للأسف حالت الحرب دون استكماله وتنفيذه، فالحالة النفسية مجروحة ومثقلة بالهموم، والوقت غير مناسب لإطلاقه".
ويتابع الشاب الذي يبلغ من العمر (37 عامًا): "أجبرتني الحرب على النزوح أنا وأسرتي إلى مصر، بعدما فقدنا منزلنا، ودمر الاحتلال كافة الشركات الفنية التي أعمل معها، ولمحاولتنا الوقوف على أقدامنا استكملت العمل الفني مع معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى كمدرب كورال للأطفال الفلسطينيين النازحين في مصر".
ويضيف: "تُسهم الموسيقى والغناء في دعم الأطفال نفسيًا، خصوصًا في ظروف الحرب القاسية والنزوح، وتعويضهم عن حقهم في التسلية، ومساعدتهم وتشجيعهم لصقل مواهبهم الفنية والموسيقية، والحفاظ على التراث والهوية الفلسطينية الفنية الموسيقية لتستمر ثقافتنا الفنية وتراثنا للأجيال القادمة".

واختار الملحن والموزع الموسيقي قسم الله الخواجة، الاستمرار في إسماع العالم صوت ألحانه من داخل قطاع غزَّة، رغم كثافة الضربات الإسرائيلية التي حصدت أرواح مُحبيه ونسفت آلاته ومعداته. ويقول: "تعمد الاحتلال الإسرائيلي إبادة الفن، وهذا ما لامسته عدة مرات، من تدمير الاستوديو الخاص بي والمجهز بكافة المعدات والآلات الموسيقية، لكن سرعان ما جهزت الاستوديو الثاني الذي أحرقه الاحتلال، وتسابقت مع الوقت لتجهيز الاستوديو الثالث بمعدات ذات أسعار مرتفعة، حتى قصفه الاحتلال ونحن بداخله، فيما نجوت وفقدت أعز أصدقائي سعدي مدوخ".
جابت ألحان وتوزيعات الخواجة كافة أرجاء فلسطين وخارجها، وعمل مع ثُلة من الفنانين الفلسطينيين كمحمد عساف، وآية خلف، وعبد المجيد عريقات، والعديد من الفرق الموسيقية.
ويتابع الموزع الموسيقي: "كل ما أفقدني إياه الاحتلال أحاول إيجاده في النغمات الموسيقية، التي تساعدني في التغلب على الواقع المعاش وسط أصوات الانفجارات والصواريخ المحملة بأطنان القنابل،
ورغم كل الظروف التي حاولت إيقافي، إلا أنني لم أتوقف، لأجل توفير مقومات الحياة لأسرتي، وإرسال رسائل وأصوات مدينتي غزَّة، التي تُعزز الثقافة الموسيقية التي لها الدور الأبرز في مناصرة القضية الفلسطينية الأساسية".
ويعلق: "كل يوم أتنفس فيه، أوجه رسالتي الموسيقية، لعلّ العالم الأصم يسمعها، بأننا أرواح لها حياة، قتلها الاحتلال، ويحاول إبادتها وتحويلها إلى أرقام".
وطوال الحرب المستمرة، قتل الاحتلال الإسرائيلي 118 عاملًا في الحقل الثقافي، ما بين كتاب وفنانين وموسيقيين وسينمائيين، فيما دمّر بشكل كلي وجزئي جميع المراكز والجمعيات الثقافية خلال حرب الإبادة على قطاع غزَّة، وفق وزارة الثقافة والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
ويخبرنا إسماعيل داود، أستاذ الموسيقى والغناء وآلة العود بمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى بغزة، أن "الأعمال الفنية خلال حرب الإبادة متواضعة وخالية من الأعمال الموسيقية المتكاملة، بسبب الأوضاع الصعبة التي يعيشها الفنانون، وغياب الاستقرار والهدوء النسبي، ونقص وغلاء الآلات والأدوات الموسيقية الضرورية في الأعمال والإنتاج الموسيقي، وملاحقة واستهداف الاحتلال للفنانين الملتزمين بقضايا الوطن، ممن يقدمون الغناء والكلمات الهادفة والملتزمة، ويصل الأمر لحجب أعمال فنية لفرق موسيقية".
ويتابع: "يواجه الفنانون عدة تحديات في تسويق أعمالهم الموسيقية والفنية في البيئة الغزّية، حيث يُعتبر الفن نخبويًا تتابعه فئة المثقفين والفنانين، وليس كافة المجتمع لانشغالهم في توفير لقمة عيشهم، وسوء الأوضاع العامة، وقلة الجهات الداعمة الموجهة للقطاعات الصحية والتعليمية والغذائية، مما دفع العديد من الفنانين للهجرة".
وأضاف لـ"الترا فلسطين"، أن "معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، يقوم بتدريس الغناء والآلات الموسيقية للأطفال والشباب في مخيمات النزوح، بطاقم أكاديمي ذو خبرة طويلة في هذا المجال، من حيث تعزيز دور الموسيقى في التفريغ والعلاج النفسي، وكذلك استقطاب طاقات الأطفال ومواهبهم للخروج من أجواء الحرب، وإيصال صوتهم للعالم من خلال أصوات الموسيقى".
ويتابع: "كثير من فناني العالم العرب والأجانب هبّوا لنصرتنا في غزَّة والتضامن معنا، وساعدوا عبر كلماتهم وألحانهم في إيصال صوتنا للعالم مع صوتهم".
ويختتم حديثه لـ"الترا فلسطين"، بالقول: "نأمل أن تقف آلة القتل والدمار المتعطشة لإبادة شعبنا، ونتمنى أن تنعم بلادنا بالاستقرار والرخاء، حتى تستقر الموسيقى والموسيقيون، وتصبح أرضًا خصبة للإنتاجات الموسيقية المتنوعة".