يُطالعك إعلان عبر إحدى مجموعات الفيسبوك؛ يُعلن فيه صاحبه عن إمكانية توفير تنسيق للصحة العالمية بمبلغ مالي، في وقت يشتكي فيه المرضى أساسًا من عدم وجود تنسيق لسفرهم، ويتواجد ما يزيد على 5 آلاف حالة تحتاج لتحويلة عاجلة.
مرافقون يتركون المرضى وشكاوى من التحويلات وحافلات لم تخرج من المستشفيات ومنشورات على فيسبوك تدعي تنسيق السفر من غزة
الإعلان دفع للتواصل مع صاحبه، الذي حرص على عدم وضع هاتف له، ويكتفي بأن يكون التواصل عبر "الماسنجر" الخاص في فيسبوك، وخلال التواصل معه، تَكشف عن تساؤلات كثيرة تُثير الشبهات حول القضية.
كتب في الإعلان على فيسبوك ما نصه: "اللي عنده حالة مرضية وبدّه يعمل تنسيق الصحة العالمية يتواصل معه، واللي بدّه ينجز لحالته كمان متوفّر".
تقمّصت دور الباحث عن التنسيق، وأرسلت رسالة لصاحب الإعلان، الذي طلب مبلغًا ماليًا يصل لـ5 آلاف دولار، وقال إنه يتطلب وجود مرض أو إصابة، و"أنا أتكفّل بالباقي"، مع الإلحاح لفهم كيفية الوصول للتحويلة، حَظر الحساب أي إمكانية للتواصل.

وفي السياق ذاته، حصلت على شهادات لمرافقين تحدّثوا عن شبهات فساد رافقت مسيرتهم من الخروج عبر معبر رفح. إذ رافق أحمد ح.، زوجته وطفله للعلاج بعد إصابتهم في قصف إسرائيلي، في طريقهم إلى مستشفى إماراتي. وعند وصوله للصالة الفلسطينية في معبر رفح، تم استبدال اسمه بآخر، على وعدٍ بأنه سيتم إلحاقه بقافلة ثانية؛ ووافق على ذلك، لكنه لم يخرج حتى هذه اللحظة.
أثناء عملية التحري، وصلت شكوى من مريضة تم تحويلها لمستشفى بالإمارات أيضًا؛ لكنها تفاجأت هي الأخرى بوضع مرافق لها لا تربطه بها أي صلة، قائلةً: "وجدته معي بصفته مرافقًا لي، وأنا لا أعرفه؟".
تشير التقديرات لدى وزارة الصحة بغزة إلى وجود 12 ألف مريض ومصاب تقريبًا يحتاجون لتحويلات طبية عاجلة، خاصة أمراض "السرطان والكلى"، مع وفاة 40% تقريبًا من مرضى الكلى نتيجة تأخرهم في تلقي العلاج، بحسب الوزارة. وتُظهر البيانات الصادرة عن وزارة الصحة بغزة أن إجمالي عدد التحويلات الطبية للحالات الطارئة خارج القطاع بلغ 17,009، بينما لم يُسمح بالسفر سوى لـ2,063 مريضًا ومصابًا.
هذا يعني أن هناك 14,937 شخصًا في غزة يعانون من أمراض خطيرة مثل السرطان أو إصابات بالغة، ولم يتمكنوا من مغادرة القطاع لتلقي العلاج اللازم، ما يُعرّض حياتهم لخطرٍ شديد في ظل إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم.
مَن المسؤول؟
أوضح نائب مدير عام المستشفيات، الطبيب أيمن الفرا، أن عملية التحويلات الطبية كانت تتم قبل الحرب على قطاع غزة عبر الإدارة العامة للتحويلات التابعة للوزارة في رام الله، بالتنسيق مع الوزارة في غزة، وهي الآلية التي توقّفت بشكل كامل أثناء الحرب.
بعد ذلك، توجّهت منظمة الصحة العالمية لتولي الملف، من خلال التنسيق مع وزارة الصحة التي زوّدت المنظمة بكشف للمرضى والمصابين الذين يحتاجون للتحويلات الطبية العاجلة.
وأوضح أنه تم تصنيف الحالات لأربعة أصناف: "A+" وتُصنّف "إنقاذ حياة"، وهي حالات قليلة، و"A-" وتُعرف بأنها الحالات الحرجة، إضافة إلى "B" وهي الحالات المتوسطة، و"C" وهي الحالات الأقل خطورة.
يُبيّن الفرا أن عملية اختيار الأسماء كانت تتم في وقت سابق من لجنة فنية واحدة، لكن بدأ العمل –مع توارد الإشكاليات– على تشكيل لجنتين مركزيتين: الأولى في جنوب القطاع ومقرها مجمع ناصر الطبي في خانيونس، والثانية في شمال القطاع ومقرها مستشفى الشفاء في مدينة غزة.
وتضم اللجنتان لجانًا فرعية ممثلة عن المشافي الرئيسية الخمسة: "الرنتيسي، النصر (العيون)، ناصر، الأقصى، الشفاء"، وتعمل اللجان على دراسة التقارير والتحويلات قبل تحويلها للجان المركزية للبت والنظر فيها، وتحتوي كل منها على التخصصات الرئيسية التي يشارك فيها أطباء مستشارون في مختلف المجالات الطبية.
بعيد ذلك، تم رفع كشف لمنظمة الصحة العالمية، لتقوم هي بدورها بالتنسيق مع المستشفيات والدول المعنية، وتختار من بين القائمة أسماء، ليجري لاحقًا استلام كشوفات من المنظمة، ومطابقتها بكشوفات الوزارة.
كيف يحدث الخلل؟
يذكر الفرا بأن كشوفات الأسماء كانت تصل لهم قبل ساعات فقط من سفر المرضى والمصابين، الأمر الذي يتعذّر فيه التحقق من ماهية المسافرين؛ لكن هذه الآلية رفضتها الوزارة، وأصبحت تطلب وقتًا كافيًا للتحقّق من طبيعة الكشوفات والملتحقين بها، ومطابقتها مع كشوفات الوزارة.
ويُخصّص يوم الأربعاء عادةً لخروج الحافلة التي تحمل المرضى ومرافقيهم. على هذا الأساس، تتبّعنا رحلة خروج حافلة من المرضى المُحوّلين للخارج في نهاية شهر أيار/مايو، انطلقت من مجمع ناصر الطبي في خانيونس، وسارت الحافلة شمالًا تجاه شارع خمسة، وهناك توقّفت الحافلة لساعتين تقريبًا، ليلتحق بها مركبات تابعة لمؤسسات أممية، مع وجود حافلتين التحقا بالحافلة الأولى. ولم يتسنّ معرفة ماهية الحافلتين اللتين حملتا مواطنين فلسطينيين إلى الخارج.
لكن مصدرًا مسؤولًا قال: "من الشكاوى التي وردت إلينا من مشافٍ بالإمارات، إن هناك حافلات تقلّ مرضى ومعهم مرافقين، يرافقونهم أثناء خروجهم من غزة وصولًا للإمارات، ثم يغادرون المستشفيات".
وعند سؤال الطبيب الفرا حول حقيقة هذه القضية، أجاب: "نحن نسمع عن التحاق حافلات بالحافلة الرئيسية التي تخرج من مجمع ناصر، لكن هذه الحافلات لا علاقة لها بالمطلق بالمرضى، ولا يخرج أصحابها أبدًا عن طريق نظام الوزارة". مشيرًا إلى أن النظام يرتبط في تطبيق يحمله المريض، ويعرف من خلاله موعد سفره وتصنيف حالته الطبية.
وأكد الفرا وجود دفعة من 200 شخص خرجت للإمارات في شهر نيسان/أبريل، وقال إن الدفعة تضمنت 47 مريضًا فقط خرجوا من مجمع ناصر الطبي، إضافة إلى 3 أشخاص تم تحويلهم من المستشفى الإماراتي الميداني، أما البقية أُدرجوا على الكشف "دون أن يكونوا مرضى أو مصابين".
ويشير الفرا إلى أن الخلل كان مردّه تقديم كشف التحويلات خلال ساعات قليلة، لم يكن من الممكن خلالها التأكد من الأسماء، وهي الطريقة التي تم العمل على إيقافها، والتأكيد على ضرورة ترك مسافة زمنية كافية لتحديد أسماء المقبولين.
الجهات المنسقة
اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة، كانت واحدة من الجهات التي نسّقت عمليات نقل المرضى، وأكدت أن تدخلها في ملف المرضى والجرحى اقتصر فقط على نقل المصابين من بعض المشافي إلى المعبر في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023.
بدوره، أوضح هشام مهنا، المتحدث باسم اللجنة الدولية، أن اللجنة سهّلت نقل 221 فردًا من قطاع غزة إلى معبر كرم أبو سالم، وذلك بناءً على طلب من الخدمات القنصلية لعدد من الدول، في الفترة ما بين 5 آذار/مارس و27 أيار/مايو 2025، في إطار دورها كوسيط إنساني محايد.
وأوضح مهنا أن ذلك يأتي في إطار لَمّ شمل أفراد عائلات مواطني تلك الدول في الخارج، مشيرًا إلى أن طواقم تابعة للقنصليات والسفارات المعنية كانت في استقبالهم على الجانب الآخر من المعبر تمهيدًا لاستئناف سفرهم عن طريق الأردن.
وأضاف: "نظرًا لغياب الخدمات القنصلية لهذه الدول داخل قطاع غزة، طُلب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمان نقل آمن لهؤلاء الأفراد، ضمن دورها الإنساني المحايد".
وبيّن أن المشمولين في هذه العملية هم من رعايا دول ثالثة، بالإضافة إلى أفراد يعانون من أوضاع إنسانية حرجة تستدعي لَمّ شملهم مع عائلاتهم في الخارج للحصول على الرعاية والدعم.
وأكد مهنا أن دور اللجنة اقتصر على النقل الآمن لهؤلاء الأفراد، ضمن ولايتها الإنسانية في حماية المتضررين من النزاعات المسلحة وتعزيز الروابط الأسرية.
وعلم معدّ التحقيق بوجود جمعيات وقناصل عملوا على تسفير بعض الأفراد من خلال التنسيق مع جمعيات مقرها في أمريكا؛ من بينها مثلًا جمعية مجد أوروبا؛ التي نجحت في تسفير 50 شخصًا عبر مطار رامون؛ من خلال التسجيل في روابط نشرتها الجمعية.
وفي سياق متصل، عملت سفارات على نقل رعاياها، مثلما حصل مع السفارة الألمانية، التي أعلنت بشكلٍ رسمي عن نقل 35 غزيًا أمّا يحملون المواطنة الألمانية أو يحملها أقارب لهم من الدرجة الأولى.
وفي وقت سابق، أقرت الخارجية الفرنسية، بنقل أكثر من 100 غزي إلى فرنسا، يحملون شهادات من جامعات فرنسية أو يمتلكون منحًا أو قبولًا جامعيًا في مؤسسات فرنسية، وهو ما قال عنه المرصد الأورومتوسطي، إنه "تورط السفارة الفرنسية في القدس؛ بتسفير عقول فلسطينية؛ من بينهم أطباء وكوادر طبية عن طريق رامون".
وأوضحت نقابة الأطباء، أنها أجرت دراسة حول أعداد الأطباء والممرضين الذين غادروا البلاد اضطرارًا بسبب ظروف الحرب، مشيرةً إلى أن عددهم يقارب 300 شخص. ومع ذلك، نفى المتحدث باسم النقابة، رمزي أبو اليمن، وجود أي ابتعاث رسمي لهؤلاء الأفراد إلى الخارج.
سعى معدّ التقرير جاهدًا للحصول على إجابات من منظمة الصحة العالمية للتعليق على التفاصيل السابقة، لكن حتى لحظة النشر، لم يصل أي رد أو إجابة من ممثلي المنظمة أو المتحدثين باسمها في الأراضي الفلسطينية.