يعيش آلاف الجرحى في قطاع غزة بأجساد مثقلة بالألم، منتظرين لحظة الفرج التي ستُفتح فيها أبواب المعابر، بعدما ظلَّ علاجهم لشهور حلمًا عالقًا لا مصير واضح له. وبين ممرات المستشفيات المنهكة من نيران الاحتلال، يمكنك أن تشاهد مآسي لآلاف الغزيين الذين تحولوا من حياة طبيعية إلى ضحايا حرب لا يعرفون متى تنتهي.
مستشفى شهداء الأقصى بغزة استقبل عشرات الحالات من المصابين ببتر الأطراف بسبب الأسلحة المحرمة دوليًّا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، والفرق الطبية تواجه تحديات غير مسبوقة في التعامل مع الآثار النفسية لهذه الإصابات
محمود منصور (40 عامًا)، المدرب المعروف في إحدى شركات غزة، الذي كان زملاؤه يلقبونه بـ"دينامو الشركة" لحيويته ونشاطه، تحوَّل في رمشة عين إلى مقعد بعد أن سلبه القصف الإسرائيلي ساقيه ومستقبله.
نزح محمود مع أسرته من مدينة غزة إلى دير البلح في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 ظنًا منه أنها منطقة آمنة، لكن في 8 أيار/مايو 2024، بينما كان في منزله المستأجر، سمع دوي انفجار هائل تبين لاحقًا أنه قصف إسرائيلي استهدف منزل جيرانه دون سابق إنذار، وإثر ذلك سقط الركام على منزله، ليفقد وعيه ويستيقظ في مستشفى شهداء الأقصى بدون ساقيه، بينما أصيب أخوه بجروح خطيرة، وخرجت زوجته وأطفاله بإصابات متوسطة.
اليوم، وبعد أشهر طويلة من المعاناة، يحكي محمود كيف تحول من شخص نشيط يقدم الدورات التدريبية في مختلف أنحاء قطاع غزة، إلى شخص يعتمد بالكامل على الآخرين في أبسط احتياجاته. يقول: "في الأشهر الستة الأولى، كنت أتوسل إلى الأطباء للمسكنات، كنت أشعر بألم في قدمي وركبتي رغم أنهما لم تعودا موجودتين".
ورغم محاولاته المتكررة للسفر للعلاج خارج غزة، إلا أن إغلاق المعابر المستمر أحبط كل آماله. والآن، يعيش محمود على أمل واحد: أن تفتح المعابر يومًا ما ليحصل على الأطراف الصناعية ويستعيد جزءًا من حياته الضائعة. ويضيف: "زوجتي وأهلي هم سبب قوتي، لكنني أحتاج إلى علاج حقيقي لأستعيد بعض كرامتي".
نور. م (24 عامًا)، تحولت هي الأخرى إلى ضحية للحرب قبل شهرين فقط من موعد زفافها، حيث أصيبت في مجزرة البركسات في رفح بتاريخ 26 أيار/مايو 2024، وتغيَّرت حياتها إلى الأبد. في تلك الليلة المشؤومة، فقدت نور والدها واثنين من أشقائها، وأصيبت ببتر في ساقها ويدها، لتصبح فجأة "نصف امرأة" كما تصف نفسها. ورغم الدعم الذي قدمه خطيبها بعد الحادث، إلا أنها اتخذت قرارًا صعبًا بفسخ الخطوبة، قائلة: "رفضت أن أكون عبئًا على شاب لم يختر هذه الظروف، ورفضت أن يعيش معي بدافع الشفقة بدلاً من الحب".
وبعد عام من العلاج النفسي والجسدي، تواجه نور صعوبات كبيرة في التأقلم مع وضعها الجديد، خاصة مع انعدام الرعاية الطبية الكافية في غزة المحاصرة. تقول: "أحلم بالسفر للخارج لتلقي العلاج المناسب، لكن المعابر المغلقة تحول دون ذلك".
وتضيف نور: "الحرب لم تسلبني جسدي فقط، بل سلبتني أحلامي وكبريائي كامرأة، لكنني مصممة على إثبات أنني أكثر من مجرد ضحية".
اليوم، بينما تواصل نور نضالها اليومي للتأقلم مع إعاقتها، تبقى قصتها شاهدًا على معاناة جيل كامل في غزة، يحاول النهوض من تحت الأنقاض، ليس فقط ليعيش، بل ليعيش بكرامة.
وكشف عرفات أبو مشايخ، رئيس قسم الصحة النفسية في مستشفى شهداء الأقصى بغزة، عن استقبال المستشفى عشرات الحالات من المصابين ببتر الأطراف بسبب الأسلحة المحرمة دوليًّا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في قصفه للقطاع، مؤكدًا أن الفرق الطبية تواجه تحديات غير مسبوقة في التعامل مع الآثار النفسية لهذه الإصابات، خاصة بين الأطفال والنساء الذين يعانون من صدمات عميقة.
وأوضح عرفات أبو مشايخ، أن أكثر الحالات تعقيدًا هي إصابات الأطفال، حيث يعتقد الكثيرون أن أطرافهم المبتورة "ستنمو مرة أخرى" عند العلاج، بينما تعاني الفتيات من صعوبةٍ في تقبل الواقع الجديد. كما لاحظ الأطباء ظاهرة "الأطراف الوهمية"، حيث يشعر المصابون بألم في أطراف لم تعد موجودة بسبب استمرار إشارات المخ في التعامل معها كجزء من الجسم.
وحذر الطبيب من أن نقص البرامج النفسية المتقدمة وعدم توفر المتابعة بعد الخروج من المستشفى، بسبب استمرار الحرب، يفاقم معاناة المرضى. وطالب بتدخل دولي عاجل لتوفير برامج تأهيل نفسي متخصصة، خاصة مع تزايد حالات البتر يوميًا بين المدنيين، بينها إصابات بأطفال رضع لم يتعلموا المشي بعد.
وتشير تقارير طبية إلى أن غزة تشهد "أكبر موجة بتر جماعي في التاريخ الحديث"، مع تحذيرات من تداعيات نفسية طويلة الأمد قد تستمر لعقود حتى بعد انتهاء الحرب.
وفي زاوية من خيمة نزوح بمخيم النصيرات، يحاول الطفل سامي حمد (10 أعوام) أن يتدرب على المشي بعكازيه الجديدين، مبتسمًا وهو يقول "راح أرجع ألعب كورة قدم غصبن عنهم". وفقد سامي ساقه اليمنى في قصف إسرائيلي على مدرسة الجاغوني في مخيم النصيرات بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2024.
تستذكر والدة سامي تلك اللحظة المرعبة: "وجدته غارقًا في الدماء. نقلناه بين مستشفيي العودة وشهداء الأقصى، حيث أخبرنا الأطباء بالقرار القاسي: بتر الساق". وتوضح أن سامي ظلَّ بعد العملية يخاطبها: "يما قوليلهم يطلعوا رجلي، لسه بحس فيها بتوجعني".
وتضيف أن سامي يتنقل اليوم بين الخيام بعكازيه ليساعد أهله في قضاء الحاجات، ويحلم بالسفر للخارج لتركيب طرف صناعي. "بحلم ألعب مع ميسي"، يقول سامي ضاحكًا، بينما تذرف والدته دموعًا تختلط بين الفخر والألم.
وتشير إحصاءات وزارة الصحة في غزة إلى أن 1 من كل 10 إصابات في الحرب الأخيرة كانت بترًا لأطراف، نصفهم من الأطفال. ومع تدمير 70 في المئة من المرافق الصحية، أصبحت حالات مثل سامي تعتمد على "الإرادة" أكثر من الرعاية الطبية الكافية.
لاحظ الأطباء ظاهرة "الأطراف الوهمية"، حيث يشعر المصابون بألم في أطراف لم تعد موجودة بسبب استمرار إشارات المخ في التعامل معها كجزء من الجسم
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أطلق مسؤولو الصحة تحذيرات عاجلة من تفاقم الأزمة الإنسانية التي تهدد بانهيار المنظومة الصحية بالكامل. ويؤكد خليل الدقران، المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أن الوضع الطبي وصل إلى "مستويات غير مسبوقة من الكارثية"، حيث تجري المستشفيات عمليات جراحية خطيرة، بما في ذلك عمليات بتر الأطراف، دون تخدير كافٍ بسبب النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية.
وأوضح الدقران أن مستشفى شهداء الأقصى، الذي يعد المنشأة الطبية الحكومية الوحيدة التي تخدم حوالي 350 ألف نسمة في المحافظة الوسطى، يعمل حاليًّا بالحد الأدنى من طاقته التشغيلية، ويعاني من نقص حاد في جميع المستلزمات الأساسية. وقال: "نضطر يوميًا للمفاضلة لإنقاذ الحالات الحرجة بسبب شح الإمكانيات".
هذه الأزمة تأتي في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي الذي يمنع إدخال الأدوية والمعدات الطبية، بينما تستمر القوات الإسرائيلية في استهداف البنية التحتية الصحية. وحذر الدقران من أن استمرار هذا الوضع "سيؤدي حتمًا إلى موت المزيد من المرضى والجرحى الذين يمكن إنقاذهم في الظروف العادية".