خلف الأبواب المغلقة والشبابيك المتصدعة في الطابق الأرضي، وتحت ضوء خافت، تجتمع عائلة أبو دفّ لتبيت في الصالون الداخلي، الذي يقع في منتصف البيت، البعيد جزئيًا عن مرمى القذائف الإسرائيلية والروبوتات المفخخة المفاجئة، المُلقاة على الجهة الشرقية من شارع صلاح الدين.
وقد نجح "الترا فلسطين" أخيرًا في التواصل مع عائلة أبو دفّ المحاصرة منذ عدة أيام في حي الزيتون، بعد محاولات متكررة، نظرًا لانقطاع الاتصالات السلكية، وتمركز قوات الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الشرقية من الحي.
كشف شهود عيان لـ"الترا فلسطين"، أن هناك عددًا من جثث الشهداء ملقاة في الشوارع على امتداد شارع السكة، ولا أحد يستطيع الوصول للمنطقة لسحبها، ويمنع الاحتلال سيارات الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليها وانتشالها.
قال أبو محمد دفّ (60 عامًا): "عند الساعة 12 صباحًا، سرعان ما تخترق القذائف المدفعية والصواريخ وقنابل الكوادكابتر هدوءَ الليل، وتشتد عند الساعة الثالثة صباحًا، وتمتد حتى بزوغ الشمس بلا توقف، ويعلو معها صراخ وبكاء ونداءات استغاثة الجيران الذين تطالهم القذائف العشوائية، ويتسارع معها بكاء الأطفال".
يحدثنا أبو دفّ عبر سماعة الهاتف، ويعلو صوت طائرة الزنانة على صوته، قائلًا: "قام الاحتلال قبل ثلاثة أيام بتفجير الروبوتات في الحارة المجاورة، ونسف منزل جيراننا من عائلتَي سلّمي ونصر الله على رؤوس ساكنيه. انتظرت ساعات الفجر الأولى وقمت بإجلاء 12 فردًا من عائلتي، جلّهم من النساء والأطفال، وحفيدي الذي أجرى ثلاث عمليات قلب مفتوح قبل فترة وجيزة".
ورغم قلة العائلات المتواجدة في حي الزيتون، يرفض الرجل الستيني المغادرة حتى اللحظة، رغم تعاقب ثماني عمليات برّية شنّها الاحتلال الإسرائيلي على الحي منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة.
يتابع المُحاصَر في الحي: "بصعوبة بالغة، وسط تحليق مكثف للطيران الحربي ومسيرات الكوادكابتر التي تُلقي قنابلها على كل من يتحرك في الحي، استطعنا انتشال جثامين الجيران بوضعها على عربات الكارو التي تجرّها الحمير، ونقلها إلى مستشفى المعمداني، بعد منع الاحتلال طواقم الدفاع المدني والإسعاف من الوصول إلى الحي".
يُعدّ حي الزيتون من أكبر أحياء البلدة القديمة، والثاني فيها من حيث عدد السكان، ويشتهر بكثرة أشجار الزيتون التي تغطي مساحات واسعة منه.
ويضيف أبو دف: "منذ ثمانية أيام، نعيش في حصار مطبق على الحي، لكننا نتدبر حياتنا وفق ما هو متوافر من المعلبات وماء البلدية، الذي يأتي يومًا واحدًا في الأسبوع، فنقوم بتخزينه واستخدامه في الطهي والشرب. نصنع من الطحين المتوافر خبز الصاج ونتناوله مع رشة من الدقة الغزّية، بعد صيام أكثر من 15 ساعة يوميًا".
بينما اختارت عائلة الشاب عبد الرحمن عزام (20 عامًا) النزوح من الحي بعدما فقد والدته وأشقائه الثلاثة وشقيقاته، إثر غارة جوية استهدفت منزلهم خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024. ويقول عبد الرحمن: "حينما يبدأ القصف الإسرائيلي على الحي، أشعر بالخوف والفزع، وأحمل أمتعتي وأنزح. لا أقوى على عيش تجربة الفقد والإصابة مرة أخرى".
ويتابع عزام: "كوني طالبًا جامعيًا أستعد للامتحانات الإلكترونية، لا أستطيع المجازفة بحياتي ومستقبلي، ولا الصمود في الحي الذي يتعمد الاحتلال فيه قطع شبكات الإنترنت والاتصالات السلكية". ويتنهّد الشاب العشريني ويحدثنا: "خاطرت بحياتي قبل عدة أيام، وتعرضت لطلقات من مسيرات الكوادكابتر. انتظرت مغادرتها، ووصلت بصعوبة إلى البيت، وانتشلت حذاء شقيقتي رهف الذي أحتفظ به ويذكرني بها".

في ظل تكتم إعلامي شديد، يشنّ الاحتلال الإسرائيلي سلسلة هجمات جوية مستمرة على شرق حي الزيتون منذ عشرة أيام حتى اليوم، ولم يعلن عنها رسميًا، سوى ما نشره عبر صفحاته على فيسبوك من أوامر بإخلاء الحي، وعمله "بقوة" في الأحياء الشرقية للمدينة.
وتظهر معالم الدمار في الحي، بإجماع الشهادات التي رصدتها "ألترا فلسطين" من النازحين، على تواصل القصف المدفعي والجوي على مدار الساعة، وإطلاق قنابل ورشاشات مسيرات الكوادكابتر على كل من يحاول الدخول أو الخروج من الحي.
من جانبه، قال المصور الصحفي محمد سائد حسب الله: "تلقيت عدة اتصالات من الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء حي الزيتون، الذي أسكن فيه، والتوجه جنوبًا، لكني رفضت المغادرة، وقمت بواجبي الإنساني والمهني بالتقاط الصور والفيديوهات التي توثق نسف الاحتلال للعمارات السكنية المرتفعة وسلسلة الأحزمة النارية التي ينفذها الطيران الحربي. وحينما كثف الاحتلال ضرباته، اضطررت للنزوح لمسافة قريبة من الحي".
ويتابع حسب الله (28 عامًا): "يوميًا أحاول الوصول إلى الحي، الذي يمنع الاحتلال تواجد الصحفيين والمصورين فيه منذ بداية حرب الإبادة، لتصنيفه منطقة قتال خطيرة. لكن حينما تبتعد أصوات الكوادكابتر ويخبو صوت المدفعية، أسير من طرقٍ التفافية، أوثق وأنقل مناشدات المحاصرين".
ويضيف المصور الصحفي: "أخاطر بنفسي للوصول إلى الحي، لأنقل للعالم المجازر الصامتة التي يرتكبها الاحتلال، فهناك أرواح تحت الأنقاض بحاجة لاستغاثة وانتشال، أرواحهم وأصواتهم أغلى من روحي". ويسعى حسب الله، عبر صفحته على موقع "إنستغرام"، إلى لفت الانتباه إلى الاستهدافات والمجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال في حي الزيتون، ومناشدة العالم لإيقافها.
وكشف شهود عيان لـ"الترا فلسطين"، أن هناك عددًا من جثث الشهداء ملقاة في الشوارع على امتداد شارع السكة، ولا أحد يستطيع الوصول للمنطقة لسحبها، ويمنع الاحتلال سيارات الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليها وانتشالها.
ويؤكد الرائد محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة، لـ"الترا فلسطين"، أن "الواقع كارثي وصعب، فمنذ أكثر من عشرة أيام يحاصر الاحتلال المناطق الشرقية في أحياء الزيتون والشجاعية والتفاح، ويرتكب أبشع المجازر، ويمنع طواقم الدفاع المدني والإسعاف من الوصول إلى الأحياء لإسعاف الجرحى وانتشال الجثامين".
وكشف بصل أن "أكثر من 80% من هذه الأحياء تم إخلاؤها من المواطنين المدنيين، وأثناء قيامهم بالنزوح تم استهدافهم على شارع صلاح الدين، وهم يحملون الطعام والشراب والأمتعة لعائلاتهم".
وأضاف: "وصلتنا عدة مناشدات بشأن استهداف منازل مأهولة بالعائلات من عائلات: أبو سمرة، الدحدوح، اللداوي، كشكو، وغيرهم، حيث جرى استهدافهم بشكل مباشر، وأسفل هذه المباني كان هناك أحياء. كنا على تواصل معهم يوميًا، لكن الآن فقدنا الاتصال بهم".
يؤكد الرائد محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة، لـ"الترا فلسطين"، أن "الواقع كارثي وصعب، فمنذ أكثر من عشرة أيام يحاصر الاحتلال المناطق الشرقية في أحياء الزيتون والشجاعية والتفاح، ويرتكب أبشع المجازر"
يضيف الرائد محمود بصل: "حاولنا أكثر من مرة التواصل مع الجانب الإسرائيلي عن طريق منظمة الصليب الأحمر و منظمة أوتشا لكن كل المحاولات فشلت في الوصول والحصول على تنسيق لانتشالهم وسجلنا حتى اللحظة أكثر من 100 شخص موجود أسفل هذه البنايات شرق شارع صلاح الدين ولازالت جثامين المواطنين في الشوارع".
ويختتم الرائد محمود بصل: "رسالتنا ومطالبنا هي تسهيل عمليات التنسيق لطواقمنا، والتدخل دون عوائق من الاحتلال الإسرائيلي، وفق ما كفلته المواثيق والقوانين الدولية".