في غزة، حيث تذبل البراءة تحت نيران الحرب، يُصبح الأطفال أيتامًا بلا مأوى، يحملون أعباءً تفوق أعمارهم بسنوات. وبين الخيام والأنقاض، يكافحون يوميًا ضد الجوع والخوف واليُتم، على وقع القصف المستمر والقتل المتعدد الأشكال، وتحت وطأة الخسارة الدائمة.
تسجيل قرابة 30 ألف طفل يتيم، معظمهم فقدوا أحد والديهم أو كليهما خلال الحرب الأخيرة على غزة
من دفاتر الحرب.. أطفال غزة يدفعون الثمن
في خيمة بسيطة بمدينة غزة، تجلس حلا نصار (10 أعوام)، تحاول تهدئة أخيها محمد الذي لا يتوقف عن البكاء. مشهدٌ يبدو عاديًا، لولا أن هذه الطفلة أصبحت فجأة المعيل الوحيد لأخيها، بعد أن استُشهدت والدتها في قصف إسرائيلي، واعتقل الاحتلال والدها.
تقول حلا بصوت خافت: "كنت أحب الرسم واللعب، والآن يجب أن أطبخ وأنظف وأهتم بأخي. لا أعرف كيف أفعل كل هذا وحدي".
هذه ليست قصة حلا فقط، بل واقع عشرات الآلاف من أطفال غزة الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى أرباب أسر، بعد أن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم في الحرب.
وفي خيمة نزوح بمدينة خانيونس، يجلس الطفل يزن السيد (10 أعوام)، ويحاول ببراءة طفولية مسح دموع أخته ياسمين (3 أعوام)، في مشهد يعكس مأساة جيل كامل من أطفال غزة، ممن تحوّلوا إلى معيلين لأشقائهم بعد أن سلبتهم الحرب أحبّاءهم.
يقول يزن: "كنت أحلم أن أكون لاعب كرة قدم، والآن أحلم فقط أن أجد لها طعامًا ودواءً عندما تحتاج". وبدأت قصة يزن في كانون الأول/ديسمبر 2023، عندما قصف الاحتلال منزل عائلته، ففقد والديه وثلاثة من إخوته، ليُصبح العائل الوحيد لأخته الرضيعة. وهذه ليست سوى حلقة في سلسلة معاناة طويلة.
أرقام مفزعة: أكثر من 30 ألف يتيم
كشف إسماعيل الثوابتة، مدير مكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، عن تسجيل قرابة 30 ألف طفل يتيم، معظمهم فقدوا أحد والديهم أو كليهما خلال الحرب الأخيرة، مع توقّعات بارتفاع العدد إلى أكثر من 40 ألفًا ضمن الفئة العمرية حتى 18 عامًا.
وتتصدر محافظة شمال غزة النسبة الأعلى بعدد 6,700 يتيم، تليها محافظة غزة بـ5,700، ثم الوسطى بـ4,800، وخانيونس بـ4,400، بينما سُجّلت في رفح 2,400 حالة.
ورغم التحديات الكبيرة في التوثيق نتيجة انهيار البنية التحتية، تُظهر هذه الأرقام اتساع المأساة الإنسانية، حيث يواجه آلاف الأطفال ظروفًا قاسية دون معيل أو رعاية كافية، في بيئة تفتقر للغذاء والدواء والمأوى الآمن، ما يهدد بضياع جيل كامل إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة لحمايته.
أطفال يحملون الخبز بدل الحقائب
في شوارع خانيونس التي أنهكها القصف، يحمل الطفل بلال قشطة (8 أعوام) سلة خبز صغيرة على كتفه، وينادي على المارة بصوته الطفولي: "خبز للبيع". ويقول: "أنا بلال.. عمري 8 سنين.. أبيع خبزًا علشان أساعد ماما.. أنا رجل البيت الآن".
قصة بلال ليست استثناء، بل تتقاطع مع مأساة الطفل كريم الهندي (12 عامًا)، الذي كان من المفترض أن يكون في غرفة العلاج لمحاربة مرض السرطان، لكنه وجد نفسه فجأة المعيل الوحيد لأسرته بعد استشهاد والده في القصف. ويقول كريم بصوت منهك: "كنت أحلم أن أصبح طبيبًا، والآن أحلم فقط بإيجاد رغيف خبز لإخوتي".
انهيار منظومة الرعاية.. خطر طويل الأمد
يحذّر خبراء ومختصون من انهيار كامل لمنظومة رعاية الأيتام في قطاع غزة، مع تفاقم أوضاع العائلات الممتدة التي كانت تشكّل شبكة الأمان التقليدية، لكنها باتت عاجزة عن تحمّل أعباء الأطفال اليتامى، نتيجة الفقر الشديد والنزوح المتكرر.
يقول علاء الربعي، الناطق باسم معهد الأمل للأيتام: "نواجه كارثة إنسانية غير مسبوقة. الكثير من الأطفال فقدوا كل عائلاتهم، ولم يعد لديهم أحد في هذا العالم".
ومع تدمير معظم مراكز رعاية الأيتام أو تحوّلها إلى ملاجئ للنازحين، تعاني المؤسسات القليلة المتبقية من نقص حاد في التمويل والموارد، ما ينذر بكارثة ممتدة تطال حاضر الأطفال ومستقبلهم.