يواجه النازح سعيد منصور مشاق يومية في سبيل تدبير الاحتياجات الأساسية لأسرته، خاصة المياه اللازمة للشرب والنظافة، في ظل توقف خدمات بلدية خانيونس في جنوب قطاع غزة، منذ منتصف شهر حزيران/يونيو الجاري، نتيجة منع الاحتلال الإسرائيلي إمدادات الوقود اللازم لتشغيل مرافق ومضخات المياه والصرف الصحي وآليات تقديم الخدمات.
يعيل منصور (56 عامًا) أسرة مكونة من 9 أفراد، وقد اضطر للنزوح بأسرته من حي المنارة جنوب شرقي مدينة خانيونس إلى غربها، ويقول لـ"الترا فلسطين": "نواجه الموت في كل لحظة وبكل الوسائل.. كنا نعاني من المجاعة لعدم توفر الغذاء، والآن نعاني أيضًا من العطش وعدم توفر المياه للشرب وحتى للنظافة الشخصية والمنزلية".
يحتاج سكان مدينة خانيونس والنازحين فيها لأكثر من 300 ألف متر مكعب من المياه يوميًا، لا يتوفر منها حاليًا أي شيء
ومع إعلان بلدية خانيونس الكبرى التي تجمع البلديات السبع في محافظة خانيونس، وهي المحافظة الأكبر من حيث المساحة والثانية سكانيًا من بين محافظات القطاع الخمس، وجد 900 ألف من سكان هذه المحافظة والنازحين فيها الذين يتكدسون في منطقة المواصي ومناطق غرب المدينة، أنفسهم في مواجهة الخوف والموت وأزمات مركبة.
تعطيش بعد التجويع
كان منصور يعتمد على صهاريج تابعة لهيئات ومبادرات خيرية توزع المياه العذبة للشرب بالمجان، ويتزود بالمياه المالحة المخصصة للنظافة الشخصية والاستخدامات المنزلية الأخرى من خطوط تابعة للبلدية.
ومنذ نزوحه الأخير من منزله في حي المنارة قبل نحو شهرين، يقيم منصور وأسرته في منطقة الظهرة غربي مجمع ناصر الطبي، ويشكو من انقطاع تام للمياه، ويقول: "نواجه أزمة كبيرة، وأنا رجل عاطل عن العمل، ولا أملك المال لشراء الطعام والمياه".
النازح الخمسيني منصور كان يعمل في مجال الزراعة قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع، وفقد عمله ووجد نفسه عاطلًا عن العمل بلا أي دخل، حيث تقع الأرض الزراعية التي كان يعمل بها على مقربة من السياج الأمني الإسرائيلي في بلدة خزاعة شرق مدينة خانيونس، وهي بلدة مدمرة كليًا وخالية من السكان.
وكان لإعلان بلدية خانيونس عن توقف خدماتها، آثاره السلبية الكبيرة على مخيمات النازحين المتكدسة في منطقة المواصي والمناطق الغربية من المدينة، ويقول النازح الستيني أبو محمد الهمص لـ "الترا فلسطين"، إن إمدادات المياه تراجعت بشكل كبير خلال الأسبوعين الماضيين.
وفاقم توقف خدمات بلدية خانيونس الحيوية نتيجة منع الاحتلال إمدادات الوقود اللازم لتشغيل مرافق ومضخات المياه والصرف الصحي وآليات تقديم الخدمات، من تدهور الواقع المعيشي والإنساني لسكان المدينة والنازحين، الذين يقيم الغالبية منهم في خيام ومراكز الإيواء في منطقة المواصي وهي منطقة ساحلية زراعية غير مؤهلة لاستقبال كثافة سكانية عالية، الأمر الذي ينذر بوقوع كارثة بيئية وصحية وشيكة.
وفي أحد مخيمات النزوح بهذه المنطقة يقيم الهمص (63 عامًا) وعائلته المكونة من 27 فردًا من الأبناء والأحفاد، ووفقًا له فإنهم يعتمدون منذ نزوحهم عن مدينة رفح عشية اجتياح الاحتلال لها في أيار/مايو من العام الماضي، على صهاريج توزع مياهًا عذبة للشرب بالمجان، لكن في الآونة الأخيرة تراجعت هذه الصهاريج وكذلك نقاط توزيع المياه عمومًا في المنطقة.
"أزماتنا في غزة لا تنتهي، والمعاناة لا تتوقف، ونواجه صعوبات يومية في توفير المياه وأبسط الأشياء"، وبلغ اليأس من هذا النازح الستيني مبلغه إلى حد أنه يتمنى الموت على هذه الحياة البائسة، بحسب وصفه.
وتعتبر أزمة المياه أحدث أزمات مدينة خانيونس، وتضاف إلى سلسلة طويلة ومعقدة من الأزمات الناجمة عن تداعيات الحرب والحصار، كالكهرباء، والصرف الصحي، وتكدس النفايات، مرورًا بالوقود وغاز الطهي والمواصلات، وصولًا إلى المجاعة وقلة الدواء وانهيار المستشفيات.
أزمات مركبة
وقالت لجنة الطوارئ في بلدية خانيونس، إن الأزمة التي تعصف بالمدينة ناجمة عن منع الاحتلال إدخال الوقود للجهات والمؤسسات الأممية، اللازم لتشغيل مرافق ومضخات المياه والصرف الصحي وآليات تقديم الخدمات.
وتضر هذه الأزمة بنحو 425 ألف نسمة يقطنون في محافظة خانيونس وفي نطاق نفوذ بلدياتها السبع، علاوة على زهاء 280 ألف نازح من مدينة رفح المجاورة، وآلاف النازحين من مناطق أخرى من وسط القطاع وشماله، بحسب مصدر مسؤول في لجنة الطوارئ فضل عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.
وكانت بلدية خانيونس تعتمد على 5 آبار من أصل 45 بئرًا تعرضت للتدمير والتجريف، وخزان مياه أرضي وحيد من أصل خمسة دمر الاحتلال بنيتها الإنشائية والكهروميكانيكية، من أجل تزويد هذه الكثافة السكانية العالية بالمياه بوصلها، مرتين أسبوعيًا، وضخها للمربعات السكنية والمناطق التي لا تشملها إنذارات الإخلاء الواسعة.
وتسببت هذه الإخلاءات التي شملت أكثر من 90% من مساحة المحافظة، ومنها مدينة خانيونس والبلدات الشرقية فيها وهي عبسان الكبيرة وعبسان الجديدة وبني سهيلا وخزاعة والقرارة والفخاري، والتدمير الهائل الناجم عن القصف الجوي والمدفعي، في تدهور الواقع المائي.
ويقول المسؤول في لجنة الطوارئ، إن أزمات مركبة نجمت عن الإخلاء الكبير والواسع لغالبية المناطق والبلدات والمربعات السكنية في المحافظة، ولم يعد بإمكان البلديات السبع ممارسة مهامها بفعل الخطر كونها مصنفة من جانب الاحتلال كمناطق قتال خطيرة، علاوة على عدم توفر الوقود.
وتمثل النفايات واحدة من أصعب وأخطر الأزمات في المحافظة، ويقول المسؤول البلدي إن 250 ألف طن من النفايات المكدسة في مكبات مؤقتة، تهدد حياة المواطنين جراء انتشار المكاره الصحية والأمراض الفتاكة والأوبئة.

سياسة تدمير ممنهجة
تعرضت محافظة خانيونس لعملية اجتياح إسرائيلية واسعة في 5 كانون الأول/ديسمبر 2023 واستمرت لأربعة أشهر، تسببت في تدمير هائل في المباني السكنية والمنشآت المدنية والبنى التحتية، فيما تحولت بلدات مثل خزاعة إلى أنقاض وأعلنت بلديتها، أنها "منطقة منكوبة".
ويوضح المسؤول في لجنة الطوارئ، الذي تحدث في لـ"الترا فلسطين" في رد مكتوب، أن الدمار في نطاق نفوذ بلدية خان يونس طاول 300 كيلو متر من شبكات المياه، و4 خزانات مياه أرضية بسعة 20 ألف متر مكعب، و40 بئر مياه من أصل 45 بئرًا، و80% من خطوط وشبكات الصرف الصحي، و34 كيلو متر من خطوط تصريف مياه الأمطار، و120 كيلو متر طولي من الطرق، و20 آلية من أصل 26 تمتلكها البلدية تستخدم في تقديم الخدمات الحيوية للسكان، إضافة إلى استهداف البنية الإنشائية والكهروميكانيكة لـ 7 محطات صرف صحي من أصل 9 محطات.
وتضم محافظة خانيونس قرابة 890 مخيم نازحين منتشرة في أنحائها المختلفة، خاصة في المواصي، وتحتوي هذه المخيمات على زهاء 78 ألف خيمة، بحسب مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة.
ويحتاج سكان المدينة والنازحين فيها لأكثر من 300 ألف متر مكعب من المياه يوميًا، لا يتوفر منها حاليًا أي شيء، ويعتمدون لتوفير احتياجاتهم اليومية على صهاريج مياه عذبة، وما يستخرجونه من مياه مالحة للنظافة من آبار محلية بطرق بدائية.
ويقول مدير الإعلام الحكومي لـ "الترا فلسطين"، إن حوالي 92% من منازل ومبان سكنية ومنشآت في محافظة خانيونس طاولها التدمير، ويقيم الأهالي في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة، من ماء وكهرباء وصرف صحي، ما يجعل مخيمات النازحين والمناطق التي يتكدسون بها كالمواصي بيئة خصبة لتفشي الأمراض، وتشكل تهديدا حقيقيا لحياة المدنيين، خاصة الفئات الهشة من الأطفال والنساء والمسنين.