غارقًا في الظلام، ولا يضيئه سوى وهج القصف والحرائق، هكذا كان يريد الاحتلال أن يرى قطاع غزة دائمًا، وهو ما عمل على تطبيقه خلال الحرب المستمرة على غزة، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولكن، في المقابل، لم ينفكّ سكان القطاع عن محاولات التأقلم وإيجاد الحلول للأزمات المستعصية التي يوجدها الاحتلال، وكان من بينها أزمة انعدام الوقود والكهرباء.
الغزيون يحاولون منذ بداية الحرب إيجاد بدائل للطاقة والوقود، في ظل حصار الاحتلال المشدد واستهداف منشآت إنتاج الطاقة وتخزينها
عمل الغزيون، منذ بداية الحرب وإغلاق المعابر، على إيجاد بدائل لتوفير الطاقة والوقود، حيث لجأوا في البداية إلى غاز الطهي، ولكنه نفد، وحظر الاحتلال إدخاله. ثم استخدموا زيت الطعام كوقود بديل لتشغيل المركبات، لكن أسعاره زادت بشكل كبير، ثم بات شحيحًا.
ومع تفاقم الأزمة، أنشأ فلسطينيون مصانع وورشًا لإنتاج الوقود الصناعي من خلال إحراق البلاستيك، ووفّر هذا البديل كميات محدودة باتت أساسًا لاستمرار حركة بعض المركبات، ونشاط حركة المواصلات داخل القطاع، بجانب تشغيل مولدات كهربائية تغذّي منازل ومناطق ومنشآت صناعية بالطاقة.
اقرأ/ي: حرب البديل.. أهالي غزة يعيدون تدوير كل ما يلزم للبقاء
ذَهبْ العُمر مقابل الطحين في غزة
وتعتمد هذه الصناعة على تقنية التحلل الحراري (Pyrolysis)، وهي عملية يتم فيها إحراق البلاستيك داخل أفران معدنية محكمة الإغلاق، مع عزل الأكسجين، بهدف تحليله إلى غازات وسوائل قابلة للاشتعال تشبه السولار.
وبعد النجاح الذي حققته هذه الطريقة، عمل الاحتلال على تتبّع مصانع الوقود واستهدافها بشكل ممنهج ومتواصل، في محاولة لتجفيف أي مصدر للطاقة في غزة. وهذا الأمر ساهم في زيادة أسعار المحروقات المرتفعة بالأساس، ومخاوف العمال من الانخراط في هذه الصناعة.

ولم يكتفِ الاحتلال باستهداف العديد من المصانع أو مخازن الوقود المُنتج، بل واصل استهداف المولدات الكهربائية، ومن بينها مولدات تابعة لمشافٍ مركزية في غزة. كما سقط العديد من الشهداء من العاملين في هذه المصانع أو من يحرسون مخازن الوقود.
إحدى أحدث هذه الاستهدافات كانت قصف الطيران الحربي (ورشة أبو غولة) لتصنيع السولار غرب مخيم البريج، في نهاية أيار/مايو 2025، حيث دمّرت طائرات الاحتلال الورشة ومخازنها، واندلع حريق كبير في المكان، ما أدى إلى ارتقاء شهداء وسقوط مصابين. وسبق أن استهدف الاحتلال عشرات مصانع وورش تصنيع الوقود الصناعي شمال القطاع، وفي مدينة غزة، وبالأخص في المناطق الشرقية للمدينة، وكذلك مناطق وسط وجنوب القطاع.
وأثبتت هجمات الاحتلال أن أحد أهدافه هو شلّ قطاع الطاقة في غزة. وهذا لا يقتصر على المحروقات، حيث تستهدف إسرائيل محطات الطاقة الشمسية، وألواح الطاقة المثبّتة على المنازل والمشافي. وبات من الواضح أن الهدف النهائي هو جعل القطاع غير صالح للحياة، بحيث يكون خاليًا تمامًا من الكهرباء، التي تُزوّد المشافي ومحطات التحلية والمؤسسات الخدمية، وتُوقف حركة المواصلات فيه، وبالتالي تشجّع الهجرة وإخلاء القطاع.
ومن جانبه، قال عليان أبو عريف، أحد العاملين في مجال تصنيع السولار، في حديث لـ"الترا فلسطين"، إن فكرة تصنيع الوقود لم تكن تُطبَّق في غزة قبل الحرب، ولم تتوفر أي من المعدات والماكينات اللازمة لإنتاج الوقود. ولكن مع إغلاق المعابر، واستهداف الاحتلال مخازن الوقود، ونفاد المشتقات النفطية، بات من الضروري العثور على بديل لتوفير السولار للمولدات والسيارات ومركبات الإسعاف، وتشغيل بعض المصانع بالحد الأدنى.

وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "بدأت الفكرة في شمال القطاع، ثم انتشرت في باقي المناطق، ومن خلال الإنترنت والتواصل مع خبراء خارج القطاع، حصلنا على طرق صناعة الماكينات. وكانت مهمة شاقة، ونجحنا في النهاية، ولكن بتكلفة مادية كبيرة. لإنتاج عدة لترات من السولار الصناعي، نحتاج لحرق كميات كبيرة من البلاستيك، ولوقت طويل؛ ولهذا بات هذا النوع من الوقود غالي الثمن، وبالتالي انعكس على أسعار المواصلات التي ارتفعت بشكل كبير".
وشدّد عليان على أن الاحتلال يعتبر العمل في إنتاج الوقود الصناعي من الممنوعات، ويستهدف العمال والورش والمصانع والمخازن، ليمنع إنتاج الوقود.
وأكّد أن العمل في هذه الصناعة خطير من كافة الجوانب، ففضلًا عن استهدافات الاحتلال لكافة أشكال الصناعة والإنتاج في غزة، إلا أن هذا العمل يؤثر بشكل سلبي على صحة العاملين فيه أيضًا، حيث ينتج دخان أسود كثيف مليء بالمواد السامة والمسرطنة، ويؤثر على النازحين حول المكان، حيث لم يعد هناك مكان في كل القطاع غير مكتظ بالكامل، ومن نجا من القصف قد لا يسلم من التأثير الصحي السيئ.
وتابع: "محاولات الحصول على الطاقة مرّت بالعديد من المراحل، ومع الحصار تزداد الأمور صعوبة، ويحاول الاحتلال إفشال أي جهود لتوفير الحد الأدنى من الطاقة لتشغيل أساسيات الحياة. ولهذا، نعرف أننا من الممكن في أي يوم أن نذهب للعمل ولا نعود؛ نتيجة استهدافات الاحتلال المباشرة للعمال في هذا العمل".
وبعد الإنتاج، يقوم أصحاب المصانع ببيعه من خلال أصحاب البسطات، حيث لم يعد هناك أي محطة تعبئة وقود، إثر عملية التدمير الممنهجة التي قامت بها قوات الاحتلال خلال حملاتها البرية والجوية ضد القطاع.

وبدوره، قال الشاب محمد إسليم، الذي يعمل في بيع الوقود من خلال بسطة وسط مدينة غزة، إن الوقود الصناعي في البداية لم يكن مرغوبًا بتاتًا، مع توفر كميات شحيحة من الوقود الطبيعي. ولكن بعد نفاد كامل الكمية، أصبح هناك إقبال تدريجي عليه.
وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "هذا النوع من الوقود الصناعي يختلف عن الطبيعي، سواء في الفاعلية أو شدة الاشتعال، وكذلك لا يشغّل العديد من أنواع السيارات والمركبات، ومن الممكن أن يسبب تلف محركات السيارات. لهذا، فالمستخدمون الأبرز له هم الدراجات النارية المزودة بعربة (التوك توك)، وكذلك سيارات المرسيدس القديمة. مع العلم أن الكميات المنتجة منه قليلة نسبيًا، ولا يمكن أن تحلّ أزمة المواصلات".
وأوضح إسليم أن الأسعار مرتفعة ومتقلبة، حيث تزداد الأسعار مع كل استهداف لورشة تصنيع، وتتوقف بعض الورش عن العمل مع المخاوف من قصفها، كما حصل مع غيرها، وكل هذا يؤثر في أسعار الوقود. وتابع: "أوجدت هذه الصناعة عملًا لعمال آخرين في مجال جمع البلاستيك، حيث ينتشرون في مناطق القطاع ويجمعون القطع البلاستيكية من الشوارع ومكبات النفايات، ويفضَّل أن يكون البلاستيك ثقيلًا ومطاطيًا، ككوابل الكهرباء السميكة، وغالبًا ينشط الأطفال في هذا العمل".