وعدت الحكومة الفلسطينية التاسعة عشرة، برئاسة محمد مصطفى، منذ تنصيبها في أواخر آذار/مارس من العام الماضي، بإعداد وتنفيذ خطة شاملة لإصلاح المالية العامة، وذلك من خلال المسؤولية المالية، وشفافية الموازنة، وإدارة المصروفات والديون، وضمان مواءمة هذه الإجراءات مع سياسات إنعاش الاقتصاد وتحسين إيرادات الخزينة، عبر ترشيد المصروفات، وخفض التسريبات المالية، وتعزيز وتحسين شفافية المالية العامة. فهل طبقت حكومة محمد مصطفى كل ذلك فعلًا؟
يبدو أن الواقع لم يختلف كثيرًا في العام 2025، فقد أشار ائتلاف "أمان"، في تقدير موقف، إلى أنه رغم نشر مشروع قانون الموازنة العامة 2025، إلا أن الحكومة حتى الآن لم تنجح في تخفيض النفقات
منذ أداء الحكومة اليمين القانونية، أعلنت عن مجموعة من القرارات المتعلقة بترشيد النفقات العامة، وحماية المال العام، وضبط استخدام المركبات الحكومية، وترشيد الإنفاق على المباني الحكومية، وتنظيم التوظيف والتعاقد في الوظائف العمومية.
ومن خلال ما رُصد من تقارير حول تقييم هذه الخطة الإصلاحية، فإن هذه الخطوات تحتاج إلى برنامج واضح، ضمن إجراءات واضحة. فقد أظهر التقرير الرصدي الشامل حول عملية الإصلاح للحكومة الفلسطينية التاسعة عشرة (1 نيسان/ أبريل 2024 - 28 شباط/ فبراير 2025)، الذي أعده "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة - أمان"، أن الحكومة لم تُقرّ ولم تنشر أي خطط أو استراتيجيات خاصة متعلقة بمؤشر المالية العامة والاستدامة المالية، ولم تُشكل أي لجان بخصوصه، ولم تُشرك المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني في إعداد الموازنة العامة، ولم تنشر أغلب الوثائق المتعلقة بشفافية الموازنة العامة، وفقًا للمعايير الدولية.
اقرأ/ي: هل ستُوفّر بلدية الخليل ما تبقى من راتب شهر نيسان لموظفي الحكومة؟
رئيس الوزراء وغزة.. هذا ليس نقاشًا عن الحكومة
تشريعات تتنافى مع محاولات الترشيد
لكن، على صعيد آخر، صدر قرار بقانون مُعدل لقانون مكافآت ورواتب أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء الحكومة والمحافظين، تم بموجبه منح كبار الموظفين في السلطة الفلسطينية الامتيازات التقاعدية المقررة للوزراء وأعضاء المجلس التشريعي والمحافظين، الأمر الذي يتنافى مع توجهات الحكومة نحو الإصلاح وترشيد النفقات التشغيلية، واتخاذ إجراءات للإصلاح المالي، ما سيُضاعف الأعباء التي تتكبدها الخزينة العامة.
ويشير الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي، نصر عبد الكريم، إلى أن الحديث عن ضبط الإنفاق أمر ليس بـ"كبسة زر"، وإنما يحتاج لإجراءات وقوانين وجدول زمني قد يستغرق أكثر من سنة، ويجب أن يكون هذا الترشيد أو الضبط تراكميًا. ومن المهم التنويه أن هناك قطاعات يصعب الترشيد فيها، كرواتب الموظفين والأجور (الفاتورة الأعلى على الحكومة)؛ لأن هذه النفقات أصبحت حقوقًا مكتسبة بموجب القانون، وأي تقليص أو ترشيد فيها سيؤدي إلى أضرار وتبعات اقتصادية لا يمكن تجاوزها، مثل ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض دخل الفرد.
أزمة مالية بنيوية وأصحاب مصالح
وبلا شك، فإن محاولات الترشيد في النفقات على مدار الحكومات المتعاقبة لم تأتِ بنجاحات كبيرة، بحسب عبد الكريم، لسببين: الأول متعلق ببنيوية الأزمة المالية للسلطة، والثاني بمعارضة بعض أصحاب المصالح المستفيدين من الامتيازات والنفقات. وبالتالي، فإن الحديث عن أي سياسة تقشف أو ترشيد إنفاق يجب أن يتبعها برنامج تقشفي مدروس، وحوار مفتوح مع كل الجهات المختصة، مشيرًا إلى أن ذلك لن يحل الأزمة، وإنما سيخفف منها ومن تداعياتها.
وأوضح عبد الكريم، أن إجراءات الترشيد المتعلقة بدمج وإلغاء بعض المؤسسات الحكومية، قد توفر بعض النفقات على كاهل الموازنة، لكن لن يكون لها الأثر الواضح، خاصة أن دمج وإلغاء المؤسسات الحكومية سيؤدي إلى تفريغ موظفي هذه المؤسسات إلى وزارات ومؤسسات حكومية أخرى، وبالتالي فإن فاتورة رواتبهم ستبقى ضمن الموازنة، وما سيتم توفيره من هذا الإجراء هو تخفيف بعض النفقات التشغيلية فقط.
اقرأ/ي: الخيارات المالية تضيق.. كيف تدبرت السلطة الفلسطينية رواتب موظفيها؟
رئيس السلطة يتسلم خطة "الإغاثة والإنعاش المبكر والاستجابة الطارئة لقطاع غزة"
الحكومة ترد: 60 خطوة إصلاحية
من جانبه، يرى محمد أبو الرب، الناطق باسم الحكومة، أن حكومته واجهت أكبر اقتطاعات إسرائيلية من أموال المقاصة، ومع ذلك، فقد عملت على تنفيذ 60 خطوة إصلاحية منذ توليها، وأن هذه الإصلاحات بدأت ولن تتوقف، بالاعتماد على الموارد الذاتية، وحل العديد من القضايا الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بصافي الإقراض، والتهرب الضريبي، وترشيد النفقات، وتحسين الوضع المالي للحكومة عبر جملة من الإجراءات، مشيرًا إلى أن الحكومة في كل جلسة تناقش موضوع الإصلاحات والتطورات في هذا المجال.
ارتفاع نفقات وزارة الداخلية والأمن
ويرى عبد الكريم أن الترشيد في النفقات التشغيلية هو الأقل ضررًا على الاقتصاد والمجتمع، والأكثر مرونة من حيث التطبيق، خاصة إذا كان الأمر متعلقًا بتقليل النفقات في السفارات والامتيازات الممنوحة لكبار الموظفين والوزراء.
إلا أن دراسة تحليلية لموازنة العام 2024، أجراها ائتلاف "أمان"، تشير إلى أن النفقات المتحققة لوزارة الداخلية والأمن الوطني سجلت ارتفاعًا بنسبة 7% عن الموازنة المقدرة لذلك العام، وهي 21% من حجم الموازنة. فقد بلغت قيمة الموازنة المقدرة نحو 4 مليارات شيقل، بينما بلغت القيمة الفعلية نحو 3.7 مليارات شيقل، أي بزيادة نحو 300 مليون شيقل، وكانت النسبة الأعلى في هذا الارتفاع من حصة النفقات التشغيلية، التي من المفترض أن هدف الحكومة هو الترشيد فيها.
بما يشكل تناقضًا في توجهات الحكومة نحو خفض النفقات التشغيلية، كما أشارت حزمة الإصلاحات المالية والإدارية إلى الإصلاحات في قطاع الأمن، إلا أن البيانات المالية لا تعكس أي تقدم في خفض النفقات، وفقًا للدراسة التحليلية للموازنة.
وفي إطار رد الحكومة، قال الناطق باسمها محمد أبو الرب، إن النفقات التشغيلية لوزارة الداخلية ارتفعت من 380 مليون شيقل (المقدرة في موازنة الطوارئ 2024) إلى 525 مليون شيقل (الإنفاق الفعلي)، أي بنسبة 38%. والسبب في ذلك، أن موازنة 2024 قدّرت النفقات التشغيلية بشكل منخفض جدًا، كونها "موازنة طوارئ"، والاحتياج الفعلي أكبر من ذلك، بدلالة أن النفقات التشغيلية لقطاع الأمن في العام 2023 بلغت 511 مليون شيقل. وبناء على ذلك، فإن النفقات التشغيلية لوزارة الداخلية لعام 2024 لم تكن مشمولة بخطة ترشيد الإنفاق التي أعلنت عنها الحكومة.
اقرأ/ي: حرب غزة.. محمد مصطفى يطرح خطة السلطة الفلسطينية لـ"اليوم التالي"
رئيس الوزراء محمّد مصطفى: السلطة الفلسطينيّة يجب أن تدير غزّة بعد الحرب
"ضبط الترشيد مع العدالة الاجتماعية"
وتشير لميس فراج، منسقة الفريق الأهلي لشفافية الموازنة العامة، إلى أن الملاحظ من حكومة مصطفى هو وجود محاولات لترشيد الاستهلاك وضبط الإنفاق، لكنها تسير ببطء حتى الآن. ومن المهم أن يكون هذا الترشيد غير متساوٍ بين جميع مراكز المسؤولية، وإنما بحسب أهمية القطاع في خدمة المواطنين، وبما يتلاءم مع كل مركز مسؤولية. فعلى سبيل المثال، فإن تخفيض نفقات وزارة الصحة سيؤدي إلى تقليل مستوى الخدمة الصحية، في حين يمكن ضبط الإنفاق في قطاعات لا تمس الخدمات الأساسية، مثل قطاع الأمن، حيث ترتفع نسبة الرتب العليا التي تحتاج لرواتب مرتفعة وتثقل كاهل الموازنة.
وتساءلت فراج: "هل نحن بحاجة لكل هذه الرتب وامتيازاتها؟ وهل الوضع المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية قادر على تحمل ذلك؟".
وفي هذا السياق، ذكرت فراج أن الفريق الأهلي أشار إلى الفوضى التي تعتري إدارة ملف الموظفين في القطاع العام، إذ لا توجد أرقام واضحة ومنشورة، وهناك اختلافات عديدة بين أعداد الموظفين، الأمر الذي يتطلب الإسراع في إقرار قانون جديد للخدمة المدنية، يعالج الكثير من الثغرات والإشكاليات، ويسهم في إنفاذ العدالة الاجتماعية في الرواتب والأجور.
إحالات للتقاعد.. ولكن!
ومن جملة الإصلاحات التي قامت بها الحكومة، إحالة نحو 1000 ضابط من الأجهزة الأمنية إلى التقاعد المبكر. وفي هذا السياق، يرى الفريق الأهلي لشفافية الموازنة أن القرار مهم، إلا أن هناك حاجة أيضًا لتطبيقه على من يحملون رتب العقيد والمقدم والرائد، لكونهم يشكلون نسبة كبيرة من قوى الأمن، وتتركز فاتورة الرواتب عند هذه الرتب، لكونها رتبًا متقدمة ذات رواتب مرتفعة. كما شدد الفريق على ضرورة مراعاة وجود سنوات خدمة كافية، حتى لا تُرهق الخزينة العامة في دفع فروقات لصندوق التقاعد والمعاشات.
وأشار الفريق، في ورقة موقف، إلى أن المادة (4) من القرار بقانون تنص على "استثناء الضباط ممن يحملون رتبة عميد، ويشغلون موقعًا قياديًا هامًا على الهيكل التنظيمي، بقرار يصدر عن القائد الأعلى لقوى الأمن الفلسطينية".
وعليه، فإن هذا الاستثناء، دون تحديد معايير ضابطة، قد يتيح لقادة الأجهزة الأمنية صلاحية استخدامه وفق الأهواء أو الولاءات، أو لتصفية الحسابات. وبالتالي، توجد حاجة ملحة لوضع معايير محددة، ونزيهة، وشفافة، ومعلنة، لضمان العدالة وتكافؤ الفرص، ودرء شبهات الفساد وتضارب المصالح.
اقرأ/ي: المحكمة العليا الأميركية تقر قانونًا يسمح بمقاضاة السلطة الفلسطينية
النص الكامل | الترا فلسطين ينشر الخطة المصرية لإعادة إعمار قطاع غزّة
الواقع نفسه في العام الحالي
ويبدو أن الواقع لم يختلف كثيرًا في العام 2025، فقد أشار ائتلاف "أمان"، في تقدير موقف، إلى أنه رغم نشر مشروع قانون الموازنة العامة 2025 على منصة التشريع التابعة لوزارة العدل، وقيام وزارة المالية بعرض المشروع ومناقشته مع ممثلي عدد من مؤسسات المجتمع المدني والفريق الأهلي، واستعراض توجهاتها الإصلاحية التي تبنتها الحكومة الحالية، إلا أن الحكومة حتى الآن لم تنجح في تخفيض النفقات.
ومن خلال مراجعة البيانات، لم تنخفض النفقات التشغيلية على سبيل المثال، وبناءً على ذلك، يرى الفريق الأهلي لشفافية الموازنة العامة أن القضايا الجوهرية التي تستنزف الموازنة، مثل فاتورة الرواتب والأجور، وملف صافي الإقراض، والتحويلات الطبية، لم تظهر فيها أي نتائج بعد.