يومًا بعد يوم، تتزايد مخاطر التنقل بين شمال قطاع غزة وجنوبه عبر شارع الرشيد الساحلي، وهو الشارع الوحيد المتاح الذي يربط شقي القطاع، وتحيط به آلة الاحتلال الحربية برًا وبحرًا وجوًا، وترتكب جرائمها بحق العابرين من خلال هذا الطريق، ما تسبب بارتقاء العديد من الشهداء.
تغيب خدمات الإسعاف عن شارع الرشيد، الذي لم يبق للمدنيين في غزة سواه للتنقل بين الجنوب والشمال، كما حظر الاحتلال عبور السيارات والشاحنات فيه، مازاد من معاناة الأهالي
ومع استئناف الاحتلال حرب الإبادة على قطاع غزة، وإغلاقه شارع صلاح الدين، لم يعد أمام الفلسطينيين سوى شارع الرشيد، الذي حظر فيه عبور السيارات والشاحنات، ما زاد من معاناة الأهالي. وإلى جانب السير على الأقدام، استخدم بعض المتنقلين عربات تجرها الحيوانات (الكارو)، ودراجات نارية مزودة بعربة (توك توك).
العبور وسط الموت
وتتنوع استهدافات الاحتلال للفلسطينيين في طريق الرشيد، عبر الزوارق الحربية، والطيران الحربي والمسير والمروحي، وكذلك القصف المدفعي، أو من خلال الدبابات، أو برصاص الجنود المتمركزين شرق الطريق على بعد بضع مئات من الأمتار، داخل ما عرف بمحور نيتساريم. وتغيب خدمات الإسعاف عن شارع الرشيد، نتيجة استهداف الاحتلال لأي طواقم طبية تقترب لإنقاذ المصابين.
إحدى المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق العابرين، كانت استهداف عربة (توك توك) على منطقة تبة النويري وسط القطاع، في 5 أيار/مايو 2025، وكانت محملة بالركاب قبيل انطلاقهم لمدينة غزة، حيث أطلقت طائرات الاحتلال المسيرة صاروخًا تجاهها، ما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى، وكان من بين الشهداء طفلان.
ويقول سليم شحادة، وهو سائق دراجة نارية (توك توك)، إنه يعمل بشكل رئيسي على طريق الرشيد في النقل ما بين شمال وجنوب القطاع، وقد رأى العديد من الشهداء والمصابين في هذا الطريق نتيجة الاستهدافات الإسرائيلية المباشرة والعشوائية للعابرين.

وأضاف شحادة: "نجوت شخصيًا من أربعة استهدافات حصلت بالقرب مني، حيث تطلق الزوارق الحربية رصاصها المتفجر مباشرة تجاه العابرين في الطريق، وتقصف بقذائفها محيط الطريق، خصوصًا الشاطئ المحاذي له، وأيضًا تقوم طائرات الكواد كابتر بإطلاق الرصاص وإسقاط القنابل من الجو، فضلًا عن غارات طائرات الاستطلاع المُسيّرة".
واستدرك شحادة قائلًا: "لكن التهديد الأبرز هو الدبابات الإسرائيلية، التي تبعد 300 متر فقط عن الطريق، وتطلق النيران والقذائف، ولا يحتاج الأمر بالنسبة لها سوى دقائق حتى تغلق الطريق وتحاصر الآلاف داخله، ومجرد تحركها يربك الوضع في شارع الرشيد".
وشدد أن حظر الاحتلال لوجود سيارات الإسعاف والطواقم الطبية في منطقة الرشيد تسبب باستشهاد أعداد كبيرة من المصابين، حيث لا يوجد من يمكنه التعامل مع إصاباتهم بشكل أولي وإيقاف النزيف، عدا عن أن نقل المصابين من طريق الرشيد لأي مستشفى يستغرق ساعات، سواء على عربة (توك توك) أو عربة تجرها الأحصنة أو الحمير، ما يعرض المصابين بإصابات متوسطة وأحيانًا طفيفة لخطر الموت قبل الوصول إلى المستشفى.
ولا ينبع الخطر فقط من الاستهدافات الإسرائيلية المباشرة، بل يصاب الكثير من الفلسطينيين يوميًّا جراء انقلاب العربات التي تقلهم، نتيجة وعورة الطريق والحفر التي تملؤه.
معاناة شديدة
ويضطر آلاف الفلسطينيين بشكل يومي للعبور من خلال طريق الرشيد للتنقل لتلبية ضرورياتهم الحياتية، ومن بينهم مرضى ومصابون وكبار في السن وعائلات ونازحون.
ولا يتمكن الكثير من الفلسطينيين، نتيجة الفقر المدقع، من توفير ثمن التنقل من خلال العربات التي تجر بواسطة (الكارو أو التوك توك)، لذلك يعبرون سيرًا على الأقدام، ويستغرقون ساعات طويلة في السير بجانب خطر الاستهدافات الإسرائيلية من الجو أو البحر أو البر.

ويواجه الفلسطينيون المارون من خلال شارع الرشيد خطر أن يعلقوا في الشق الآخر من القطاع، في حال أُغلقت الطريق بواسطة دبابات الاحتلال التي تتواجد بمحاذاة الشارع.
ويقول الشاب عبد الكريم اللولحي إن عبور طريق الرشيد الساحلي مغامرة حقيقية، "فإن عبرت بأمان من جنوب القطاع إلى شماله، فالعودة ليست مضمونة، لأن قوات الاحتلال قد تغلق الشارع في أي لحظة".

وأضاف اللولحي: "في مطلع الشهر الجاري ذهبت أنا وزوجتي وطفلي من مكان نزوحنا وسط القطاع إلى مدينة غزة، لمراجعة طبيب أطفال لمشكلة تتعلق بتأخر طفلنا عن المشي. واجهنا صعوبة كبيرة جدًا في المواصلات لنصل إلى منطقة السرايا وسط غزة، ووصلنا والغبار يملأ ملابسنا، وبعد موعد الطبيب صُدمنا بأن المركبات توقفت عن العبور بسبب تقدم دبابات الاحتلال وكثافة إطلاق النار تجاه المتواجدين".
واجه اللولحي أزمة كبيرة، خصوصًا مع اقتراب حلول الليل دون أن يتوفر لعائلته مكان للإقامة، وليس لهم أقارب في غزة، فاضطر لقضاء ليلته في شارع الوحدة بالقرب من مستشفى الشفاء.
وتابع: "نام ابني وأنا أحمله، جلسنا على الرصيف وبقيت أنا وزوجتي مستيقظين طيلة الليل. كانت ليلة من أصعب ما عشته، ولم أملك من المال ما يمكنني من توفير طعام، وعندما حل الصباح كانت الطريق قد فُتحت، وعرفت أن الكثيرين مثلي علقوا في المدينة، وأن هذا الأمر معتاد".
أداة تجويع
ويستخدم الاحتلال عرقلة التنقل بين شقي القطاع كأداة لتعميق المجاعة وزيادة تفشي الغلاء، خصوصًا بعد تجريف القوات الإسرائيلية كافة الأراضي الزراعية التي كانت سلة غذائية في محافظة الشمال، واستحالة الوصول إليها، ما أدى لأن يكون جنوب القطاع هو المصدر الوحيد للخضراوات والمواد الغذائية، وسط الحصار المتواصل وإغلاق المعابر.

لذلك، تزداد أسعار السلع التي تأتي من خلال طريق الرشيد، نتيجة التكاليف الباهظة التي تُصرف لأجل نقلها، ما يزيد أسعارها الباهظة أصلاً قبل نقلها.
الشاب محمود عطا الله، الذي يعمل في مجال بيع الخضراوات، قال إن هناك فرقًا كبيرًا في الأسعار بين جنوب قطاع غزة وشماله، والسبب الأساسي في هذه الزيادة هو تكلفة نقل المواد الغذائية من جنوب القطاع إلى شماله، ما يجعل الأسعار أغلى بكثير، رغم أن سعر الخضار في الجنوب أيضًا أضعاف السعر الطبيعي.
وأضاف محمود عطا الله: "ما يزيد السعر بالتحديد هو أن الخضراوات تُنقل لنا شمال القطاع عبر عربات (توك توك) مزودة ببنزين صناعي غالي الثمن، ويستغرق أيضًا نقلها ساعات، عدا عن المخاطرة الكبيرة في التحرك عبر شارع الرشيد، ما يجعل سعر الكثير من الأطعمة أكثر من عشرة أضعاف سعرها الطبيعي".