بيسان

"ناجون" من حرب السودان تحت نيران القصف في غزة

المصدر تقارير
"ناجون" من حرب السودان تحت نيران القصف في غزة
رانية عطا الله

رانية عطا الله

رانية عطا الله، صحافية من غزة

ما إن اندلعت حرب السودان، حتى اضطرت دينا الأغا إلى مغادرة الخرطوم بعد 12 عامًا من الاستقرار، برفقة زوجها وأطفالها الثلاثة، والعودة إلى مدينتها الأم غزة، بحثًا عن "النجاة". لم يكد يمضي على وصولها خمسة أشهر، حتى وجدت نفسها في قلب إبادة جماعية جديدة.

من السودان إلى غزة، طريق النجاة كان مفروشًا بالرصاص.. عائلات فلسطينية نزحت من السودان، بحثًا عن الأمان في غزة، لكنهم وجدوا أنفسهم من حربٍ إلى حرب، ومن موتٍ إلى موت متوقّع!

تحكي دينا الأغا لـ"الترا فلسطين" عن أولى لحظات الحرب هناك: "قبل ثلاث سنوات، استيقظتُ في أواخر رمضان على أصوات إطلاق نار، ظننتها ألعابًا نارية، لكنها كانت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع".

وتضيف: "منذ اليوم الأول عانينا من انقطاع الكهرباء والاتصالات وشح الطعام، بينما تجاوزت درجات الحرارة الخمسين، وكأننا نعيش حربًا بالنار، وبدون وسائل تبريد".

بعد سفر بري طويل وبلا فراش.. أطفال دينا الأغا ينامون على قارعة الطريق قرب معبر أرقين بين السودان ومصر

"كنت خائفة أن أموت في الغربة، بلا إسعاف من أهلي، ولا تراب وطن يضمّني"، تقول الأغا، مستذكرة ليلة عيد الفطر "الأشرس"، التي لم تهدأ فيها أصوات القذائف، ولم يعرف فيها الفلسطينيون للنوم طريقًا.

وفي اليوم الرابع للعيد، بدأت رحلة الإجلاء البرية من الخرطوم، التي أعلنت عنها السّفارة الفلسطينية، واضطرت الأغا لاختصار كلّ حياتها في حقيبة ظهر صغيرة وبعض الطعام، مقابل 300 دولار للشخص. استمرت الرحلة أربعة أيام ونصف، وسط طرق وعرة، وجبال من الخوف.

العودة إلى الجحيم

"كأننا بين كابوس ويقظة"، هكذا وصفت دينا الأغا اللحظات الأولى بعد الوصول إلى غزة. وبينما كانت تحاول ترسيخ جذورها مجددًا، اندلعت حرب الإبادة الإسرائيليّة على القطاع، لتعيدها إلى مُربّع الخوف والفقد.

"ظننتُ أن ذكريات السودان تطاردني، لكن الواقع في غزة كان أشدّ قسوة"، تقول، وهي تعدد ملامح الرعب اليومي: انقطاع الكهرباء، الغلاء، شحّ المواد، الإخلاء، النزوح، والاستهدافات المتكررة.

دينا الأغا: نجونا من الموت في السودان، لنعيشه ببطء في غزة. هذه ليست حياة، بل انتظار دائم للمجهول

وأمام تساؤلات أطفالها المرتجفة، بدا المشهد أكثر وجعًا. يسألها ابنها الصغير: "ماما، قصف في السودان وقصف في غزة.. وين نروح لمكان ما فيه قصف؟". كان تأمين الطعام لأطفالها تحديًا يوميًا. إذ أصيبت يدها بشظايا من "الأحزمة النارية" القريبة، واضطرت للنّزوح إلى منطقة مواصي خانيونس، حيث عاشت مع عائلتها في خيمة.

"كانت تغريبة فلسطينيّة بمعناها الكامل"، تقول الأغا، واصفةً الحياة اليومية: طبخ على الحطب، انتظار وجبات "التكية"، غسيل يدوي، برد، ومصير مجهول.

15 عامًا في حقيبة سفر!

عاش عمران عطاالله أكثر من 15 عامًا في السودان، قبل أن تطيح الحرب بكل ما بناه في لحظة. أُغلقت الولايات، تعطّلت المخابز، نُهبت الأسواق، وغاب العلاج والأمان. بات خروجه إلى الشارع مخاطرة حقيقيّة.

اضطر عطاالله لجمع أكثر من 50 فردًا من عائلته في بيت واحد وسط انقطاع الكهرباء والمياه، حيث شربوا من خزانات الحمامات، وتعرّضت ممتلكاتهم للسرقة على يد عصابات استغلّت الفوضى. أُجلي أفراد العائلة على دفعتين، وسط تشتت الرعايا الفلسطينيين بين الدول.

شيء من ذاكرة السودان.. بيت عائلة عمران عطاالله الذي احتضنه وأسرته طوال 17 من الغربة.
شيء من ذاكرة السودان: بيت عائلة عمران عطاالله الذي احتضنه وأسرته طوال 17 عامًا من الغربة

"الحرب صارت فجأة، وكل شيء ضاع.. ولم نتوقّع أن نُجبر على لملمة كلّ حياتنا في حقيبة"، يقول عطا الله، مشيرًا إلى تفتيش الجنود له أثناء خروجه، ومشاهدته جثثًا هامدة وهو يعبر نقاط الاشتباك على وقع الطائرات والنار.

عمران عطا الله: أجبرونا أن نختصر كل حياتنا في حقيبة، ومتنا صمتًا في السودان.. أما في غزة فنموت واقفين

يستذكر سنوات عاشها في ظلّ المجاعة، حيث رأى الناس يأكلون من القمامة، وكان شاهدًا على فقر مدقع، وخيم بالية، وأطفال حفاة يفطرون على مياه الفول وخبزٍ مفتت.

قضى عطا الله نحو 15 يومًا في "حبس منزلي" فرضته الحرب، واجه خلالها نفاد الطحين وغياب الاتصال بالعالم. يقول إن الخوف ظلّ يلازمه حتى وصل إلى معبر أرقين على الحدود المصرية.

واعتبر أن أصعب مراحل الرحلة كانت بطء التنقل، حيث جلس لساعات طويلة داخل الحافلات، خصوصًا في الطريق الممتد من الخرطوم إلى رفح، ولم يشعر بالأمان حتى تجاوز جسر الحلفايا، على بُعد كيلومترين فقط من السودان.

تجمّع عائلات الجالية الفلسطينية في حفل زفاف في السودان 

ورغم ما واجهه في غزة من قصف وتجويع وقتل عشوائي، يؤكد عطاالله أن وجوده في وطنه وبين أهله يمنحه نوعًا من الطمأنينة، ويضيف: "في السودان متنا صمتًا، أما في غزة فنموت واقفين. هذه حرب مع العدو.. وهذه أرض الرباط".

من زفّة إلى جنازة

لم تكد غدير جعرور تنعم بالاستقرار في بيتها الجديد في حي الواد الأخضر بالخرطوم، حتى اندلعت الحرب على بعد شارع واحد منها. تقول: "كنت عروسًا، لم أفرح بجهازي ولا بيتي، حتى الإجلاء اشترط علينا حقيبة واحدة فقط".

وصفت رحلتها البريّة إلى غزة بأنها "أصعب سفر في حياتي". توقفت في استراحات لا تقي من الجوع، بلا حمّامات مناسبة، وأحيانًا كانت الحمّامات مجرد حفر غير صحية تُستخدم بمقابل مادي. طوال الطريق، خافت من انقلاب الحافلة المزدحمة.

نجت غدير من رصاص دخل إلى المنازل، ثم واجهت خوفًا آخر من قُطّاع الطرق الذين جرّدوا الناس من هواتفهم وأموالهم. وتقول: "جرّبت الخوف والجوع والنار. لم أشعر بالأمان إلّا عندما وصلت مصر، لكنّ التعب ظلّ يرافقني".

من إجلاء السفارة الفلسطينية لرعاياها واستقبابهم أمام معبر رفح البري وسط فرحة عارمة بالنجاة.
من إجلاء السفارة الفلسطينية لرعاياها واستقبالهم أمام معبر رفح البري وسط فرحة عارمة بالنجاة، في حينه

في معبر رفح، انفجر أحد الأطفال بالبكاء عند رؤيته عنصر أمن، مرددًا: "هذا دعامة.. دعامة"، في إشارة إلى عناصر قوات الدعم السريع. وتضيف غدير جعرور أنّ العائلة خسرت بيوتها وسياراتها، وسُرق أثاثها وبِيع في الأسواق.

عادت إلى غزة بعد 25 عامًا من الاغتراب، لكن "الفرحة ما كمّلت". إذ أصيب زوجها في عينه أثناء سعيه خلف الطحين على طريق دوّار الكويت بغزة، في مشهد يختزل الخسارة والخذلان.

عرض هذا المنشور على Instagram

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Ultra Palestine - الترا فلسطين‎‏ (@‏‎ultrapalestine‎‏)‎‏

على الطريق ذاته، فقدت أخاها حسن وعددًا من أقاربها. "عشت الاكتئاب، وشفت الموت بكل أشكاله"، تقول، مضيفةً: "جرّبت الجوع، أكلت الشعير والصويا والذرة، وأُصبت بأمراض معوية والتهاب الكبد الوبائي".

اليوم، تعيش جعرور مع 30 فردًا في منزل بسيط، تنام على الأرض، وتحمل كل ما تملك في حقيبة السفر. وتقول: "ملابسي حتى الآن في الشنطة؛ لأنه ما عندي خزانة. أحلامي تغيّرت.. كل ما أريده أن تتوقّف الحرب".

وتختمُ بصوتٍ مكسور: "صديقتي دينا الدرّة استشهدت بعد أشهر فقط من عودتها من السودان. راحت هي وعيلتها 8 أرواح في قصفٍ واحد.. كلّنا عايشين على قائمة الانتظار".

نجاة مؤجلة.. وذاكرة لا تنسى

من الخرطوم إلى غزة، تتشابه الوجوه والدموع، ويتكرر النزوح والفقد. ثلاث حكايات لنجاة مؤقتة، قادت أصحابها من نيران إلى نيران، من موت في أرض الغربة، إلى موتٍ محتمل في غزة.

في السودان، تجاوز عدد الضحايا 20 ألفًا، بينما تقدّر جهات أخرى أنّ 150 ألفًا لقوا حتفهم، وتسببت الحرب في نزوح نحو 13 مليون شخص، وسط مجاعة تهدد 25 مليونًا، بحسب الأمم المتحدة.

أمّا في غزة، فقد ارتفعت حصيلة الشهداء لـ 53 ألفًا، بينهم 18,000 طفل و12,400 امرأة، واستُشهد 1,411 من الكوادر الطبية و214 صحفيًا، وفق إحصاءات فلسطينية رسمية.

وفي كلا المكانين، لا فارق كبير بين الطائرات التي قصفت والمجاعات التي خنقت، سوى أن هذه النجاة لم تكتمل، وأن سؤال الطفل الصغير: "وين نروح؟"، ما زال في الهواء بلا جواب.

عرض هذا المنشور على Instagram

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Ultra Sawt | الترا صوت‎‏ (@‏‎ultrasawt‎‏)‎‏