جبالٌ من الركام، ودمارٌ في كل اتجاه وعلى مد البصر ، هكذا أضحت مدينة الزهراء، بعد أن كانت تُصنَّفُ كأجمل مناطق قطاع غزة، وإحدى مراكز الثقل الإداري، والتعليمي، والاقتصادي في غزة. ولطالما تميزت المدينة بمبانيها المصممة على الأنماط العصرية، وشوارعها الواسعة والخضراء، وأبنيتها المكونة من أبراج سكنية متعددة الطوابق، بالإضافة لمناطق مخصصة للبيوت الجميلة والقصور.
معالم مدينة الزهراء اختفت تمامًا، ولم يبقى فيها مكان صالح للسكن، وجميع سكان المدينة الذين كانت روابطهم الاجتماعية قوية، تشتتوا على مستوى القطاع، وجلهم يسكن الخيام الآن
وكانت مدينة الزهراء تحوي عددًا من الجامعات الرئيسية في قطاع غزة، ونوادي رياضية، ومدن ترفيهية، ومراكز طبية، ومدارس، وكذلك مباني إدارية حكومية، وقصر العدل، وصالات أفراح، واستراحات، وخلال السنوات الأخيرة، شرع رجال أعمال فيها بالعديد من المشاريع، نظرًا لتحولها لمكان حيوي ومهم. أما اليوم، بعد إطلاق إسرائيل حرب الإبادة على غزة، فلم يبق لهذه المناطق أي أثر، وأقيم على أنقاضها جزءٌ كبيرٌ من محور نيتساريم.
ومنذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، بدأ الاحتلال بسلسة ضخمة من الاستهدافات الجوية للمدينة، دمر خلالها عشرات الأبراج، وأسفرت عن العديد من المجازر، وأعلن المدينة كمنطقة عمليات خطيرة، تحظر الإقامة فيها، ثم كثف قصفها بالطائرات الحربية وطارات الاستطلاع، والزوارق، والمدفعية.
وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قام الاحتلال باجتياح الزهراء، انطلاقًا من الحدود الشرقية لوسط القطاع قبالة قرية جحر الديك، وقطع خلال التوغل شارعي صلاح الدين والرشيد الساحلي، كما قسم القطاع إلى نصفين شمالي وجنوبي وهو ما استمر حتى وقف إطلاق النار.
يصف عبد الله رزق، أحد سكان الزهراء، ليلة نزوحه مع عائلته من المدينة، بتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بأنها ليلةٌ "صعبةٌ جدًا ودامية"، ويقول إن الموت كان في كل مكان، والقصف مكثف، والآلاف ما بين نساء وأطفال وكبار في السن كانوا يهربون مع القصف العشوائي العنيف.
ويضيف عبد الله رزق: "كنا في مبنى جامعة الأمة، وحصل قصف قريب جدًا، ظننا أنه استهدف أحد مباني الجامعة، فخرجنا، حينها صدمنا بوجود شهداء في الطرقات من وسط مدينة الزهراء، وحتى مدخل قرية المغراقة الجنوبي، مرورًا بالجسر. كنا في حالة ذعر شديد، إلى أن وصلنا للمخيم الجديد شمالي غربي النصيرات، ونظرنا للزهراء، التي كانت النيران تشتعل فيها من شدة القصف ولم نكن نعلم أنها ستتحول لمواقع تمركز الاحتلال، ولا أنسى أننا كنا نعبر فوق الجثث، ولا ينير الظلام أمامنا سوى وهج الانفجارات الهائلة خلفنا، وجميع أهالي المدينة الذين نجو لم يأخذوا معهم أي شيء."
وأوضح رزق، أن الاحتلال كان ينذر الأبراج، ثم يقصفها مباشرة بعد 5 دقائق، حتى مع وجود سكان داخلها، ليوقع أكبر عدد من الشهداء والمصابين. وقال: "نفذ الاحتلال حملة قصف عشوائية، ضمنها قذائف مدفعية وصواريخ حربية، على أراضي زراعية ومباني وطرقات الجميع، وكذلك احزمة نارية مكثفة شمال مدينة الزهراء، حينها بدأت عائلات كثيرة، كانت مصممة على البقاء، بالهرب خوفًا على حياة أفرادها".
وأكد عبد الله رزق أن الأعداد التي ارتقت في تلك الحملة من القصف كبيرة، ولكن لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إليهم، بسبب الاستهداف المتواصل، الذي استمر حتى دخول القوات البرية الإسرائيلية، حيث أن كل من حاول العودة للمدينة كان يقصف مباشرة.
ووثقت كاميرا الترا فلسطين الدمار الهائل الذي حل بمدينة الزهراء، وطال كافة مباني المدينة باستثناء برح واحد في القسم الشمالي من المدينة، وبحسب السكان، فقد كان الاحتلال يستخدم هذا البرج كمقر لقيادته، ومكان مبين لجنوده، حيث عثر بعد الانسحاب من المدينة على الكثير من حاجيات الجنود، داخل البرج.
من جانبه، يقول صلاح الشافعي، إن معالم مدينة الزهراء اختفت تمامًا، ولم يبقى فيها مكان صالح للسكن، وجميع سكان المدينة الذين كانت روابطهم الاجتماعية قوية، تشتتوا على مستوى القطاع، وجلهم يسكن الخيام الآن.
وأضاف في حديث لـ الترا فلسطين: " أقيم في هذه المدينة منذ 14 عامًا، ولكني أعجز الآن عن التعرف على أماكن معالمها القديمة بالتحديد. أتذكر أنها كانت جميلة جدًا، ويسكنها مجتمع متحاب، ولكن الآن كل شيء انتهى، وعلى الصعيد الشخصي خسرت منزلي ومصدر رزقي، وسيارتي، والآن أقيم في خيمة ولا أملك سواها".
وأوضح الشافعي أنه نقل خيمته لمدينة الزهراء، بجوار ركام البرج الذي كان يضم شقته، بعد سريان وقف إطلاق النار وانسحاب الاحتلال، ولكن منذ الليلة الأولى قرر مغادرة المدينة التي أصبحت مدينة أشباح، حسب وصفه.
وتابع : "أقمت مع عائلتي لليلة واحدة في الزهراء، وكانت ليلة صعبة، لم يكن في كل المدينة سوانا تقريبًا، لا خدمات قريبة منا، لا مياه للشرب، كان الليل موحش للغاية، والكلاب الضالة بجوارنا بأعداد كبيرة، والأطفال كانوا خائفين، لو كنت أستطيع المغادرة؛ لغادرت في تلك الليلة، ولكن لا أملك وسيلة نقل، ويحظر على أي مركبة دخول المدينة، حيث انتظرنا حتى الصباح، ثم حزمنا أمتعتنا وعدنا لمنطقة مواصي خانيونس، جنوب القطاع".
وأكد صلاح على أن حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمدينة، يجعل فكرة العودة والاستقرار فيها، فكرة مستحيلة، حتى تبدأ مراحل إعادة الإعمار، وفقط إزالة الركام من الزهراء، قد تستغرق سنين، نظرا لضخامة الأبراج المدمرة، ولهذا سيسعى سكان المدينة للاستقرار في مناطق لأخرى، حسب تعبيره.
وفي السياق، أعلنت بلدية الزهراء، المدينة كمنطقة منكوبة وغير قابلة للعيش، وقال رئيس بلدية الزهراء الدكتور نضال نصار في تصريحات صحفية، إن الاحتلال -وفي سبيل إنشاء محور نيتساريم- عمد إلى تدمير كافة المباني والمنازل السكنية، ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، والبنية التحتية، والمدارس والجامعات، والمنشآت العامة والخاصة، داخل المدينة.
وحتى آخر يوم قبل وقف إطلاق النار، كان جيش الاحتلال ينفذ عمليات تفجير ونسف للمنازل والأبنية في محيط نتساريم التي كانت مدينة الزهراء جزءًا منها. والآن، مع استئناف حرب الإبادة على غزة، عاد جيش الاحتلال لتوسيع انتشار قواته باتجاه المنطقة، مع تهديد بالاستيلاء على الأراضي في حال واصلت حماس رفض الإفراج عن الأسرى بدون قبول إسرائيل بشرط وقف الحرب.