دخل محمد فلنة سجون الاحتلال الإسرائيلي شابًا، وخرج منها ستينيًا يكسو رأسه الشيب، وبذاكرة تختزن الكثير من مآسي وعذابات السجن والسجان على مدار 34 عامًا.
كانت الأعوام تمر على فلنة، من مدينة رام الله، العام تلو العام، متنقلًا بين سجون الاحتلال وزنازينه، ظهر الأمر له وكأنه سيموت بين جنباتها غارقًا في عتمتها، ولن ينعم بنور الشمس مرة أخرى، حتى كان مولده الثاني، عندما كسرت صفقة التبادل قيده، ليعانق الحرية.
انتهى الأسر، دون لقاء العائلات، بالنسبة لعشرات الأسرى، الذي عمد الاحتلال على إبعادهم إلى قطاع غزة
محمد فلنة، من مواليد رام الله بالضفة الغربية في العام 1963، واعتقلته قوات الاحتلال في العام 1992، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، ويقول لـ"الترا فلسطين": "كل سنوات السجن في كفة، وآخر عام ونصف العام في كفة ثانية، خلالها مورست ضدنا أبشع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي".
"كان السجانون ووحدات القمع يضربوننا ويعذبوننا بوحشية، ويصرخون في وجوهنا بألفاظ نابية، وكأننا المسؤولون عن عملية 7 أكتوبر"، بحسب رواية فلنة، الذي أبعدته قوات الاحتلال مع أسرى محررين آخرين لغزة، في إطار صفقة التبادل مع الفصائل الفلسطينية.
View this post on InstagramA post shared by Ultra Palestine - الترا فلسطين (@ultrapalestine)
لحظة الحرية
انقضت نحو 20 يومًا على تحرر فلنة وانعتاقه من قيد السجن، وما يزال "غير مصدق"، أنه يستنشق هواء الحرية خارج الأسوار وبعيدًا عن القضبان، وفي حديثه الذي يحمل الكثير من الألم يروي اللحظات الأخيرة له داخل السجن، ويقول: "حتى آخر لحظة لم أكن مصدقًا أنني سأخرج".
كان فلنة من بين دفعة الأسرى المحررين التي تزامن موعد الإفراج عنها مع أزمة الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود. ويقول المحرر المبعد محمد فلنة: "قبل حل هذه الأزمة تلاعب السجانون في أعصابنا، واعتدوا علينا بالضرب، وقالوا لنا: لن تخرجوا من السجن أبدًا".
ولم تتوقف عذابات فلنة ورفاقه عند هذا الحد، وفي الحافلة التي كانوا يعتقدون أنها تقلهم إلى معبر رفح الحدودي كمبعدين إلى مصر، لم يتوقف جنود الاحتلال عن ضربهم والاعتداء عليهم جسديًا ولفظيًا، و"فجأة توقفت الحافلة، وأنزلونا وطالبونا بالسير في اتجاه محدد، وهددونا بأن كل من يلتفت خلفه سيجد رصاصة في رأسه"، بحسب فلنة.
ويقول محمد فلنة: "كنا بالليل والظلام يلف أرجاء المكان، ولا نكاد نرى أمامنا، وتدافعنا وهرولنا وتساقطنا في حفر وعقبات بالطريق، وكنت أعتقد أننا نسير في سيناء، حتى رأينا من بعيد أضواء سيارات، وعندما اقتربنا منها كانت تتبع اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأقلتنا إلى هنا حيث مستشفى غزة الأوروبي".

حلم لقاء الأحبة
يقيم محمد فلنة ورفاقه من الأسرى المبعدين إلى غزة في المستشفى الحكومي، حيث لا مكان آخر لهم في قطاع غزة، الذي تعرضت منازله وفنادقه ومنشآته العامة والخاصة لدمار هائل على مدار 15 شهرًا منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية عقب عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
بتقدير كبير يتحدث فلنة ورفاقه عن تضحيات الغزيين، والفصائل الفلسطينية، التي قادت إلى تحررهم من قيود السجن، وقال: "غزة عظيمة بأهلها ومقاومتها، وستبقى عظيمة رغم حجم التضحيات والدمار الكبير".
المحرر الستيني محمد فلنة، غير متزوج، وعائلته توجَد بين الضفة الغربية والأردن، وهذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرض غزة مبعدًا إليها، ورغم سنوات السجن الطويلة، إلا أنها لم تعبث بأحلامه وإصراره على بدء حياة جديدة.
وبشوق كبير يتحدث فلنة عن عائلته، وفي الوقت الذي أبعدته قوات الاحتلال قسرًا من السجن إلى قطاع غزة، وليس إلى مسقط رأسه في قرية صفا قضاء رام الله، فإنه يأمل أن تتاح له فرصة السفر إلى مصر ليلتقي مع عائلته لأول مرة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، بدون قيود. "سعيد جدا أنني زرت غزة، وكنت أتمنى زيارتها في ظروف أفضل، ولكنها قادرة على النهوض وإعادة البناء من جديد"، يقول المحرر فلنة.

سجون مرعبة
ويتفق الأسير المبعد جلال فقيه مع رفيقه فلنة في وصف التجربة المريرة داخل سجون الاحتلال عقب عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، ويقول لـ "الترا فلسطين": "كان السجان يتعامل معنا وكأننا من نفذنا هذه العملية".
ونتيجة سوء التغذية وقلة الطعام ورداءته خسر فقيه وفلنة الكثير من وزنهما، ووفقًا لفقيه فإن مصلحة سجون الاحتلال لم تترك وسيلة تعذيب إلا ومارستها بحقنا خلال شهور الحرب على غزة، بالضرب والتنكيل والحرمان من أبسط الحقوق، وقد تعمدت نشر الأمراض والأوبئة في أوساطنا.
وفقيه في العقد الرابع من عمره، واعتقلته قوات الاحتلال في العام 2003، وحكمت عليه بالسجن المؤبد 4 مرات على خلفية مشاركته في عملية، ويقول إن سنوات السجن كلها مأساوية ومذلة، ولكن خلال الحرب على غزة تحولت السجون إلى مقابر للأحياء، وعشرات المعتقلين فقدوا حياتهم، وأصابتهم أمراض خطرة.
ورغم ما يواجهه الأسير الفلسطيني من معاناة شديدة داخل سجون الاحتلال، إلا أن فقيه يؤكد أن "المعنويات عالية، وإرادة الأسير كالصخر وأقوى من عنجهية المحتل".
وعن غزة التي يراها لأول مرة، يقول فقيه، إن "الاحتلال نجح في تدمير حجارتها، ولكنه لم يفلح في نزع بسمة الأمل في غد أفضل عن شفاه أطفالها، الذين يكتبون المستقبل بدون احتلال، وتزرعه فيهم المرأة في غزة التي أثبتت للعالم أنها أقوى من الجبال وهي تقدم الأب والزوج والابن والشقيق على مذبح الحرية، وتتقبل هذه التضحية الكبيرة بإيمان وصبر تستحق عليها أن تنحني لها هامات العالم".
وفي إطار صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية في غزة أفرجت قوات الاحتلال عن مئات من الأسرى، بينهم من كانوا يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد، ولا أمل لهم بالحرية إلا بمثل هذه الصفقات، وأصرت إسرائيل على التنغيص على عدد منهم من سكان القدس والضفة الغربية بالإبعاد إلى غزة والخارج، فيما ما يزال آلاف الأسرى يعانون خلف القضبان يتشبثون بأمل الحرية.