بيسان

صور | فقيقيس.. حكاية قرية عمرها 300 عام

المصدر تقارير
صور | فقيقيس.. حكاية قرية عمرها 300 عام
سلام عبد الله أبو شرار

سلام عبد الله أبو شرار

صيدلانية من الخليل

على ارتفاع 467 مترًا فوق مستوى سطح البحر، جنوب غرب دورا في الخليل، تقوم "خربة فُقيقيس" كما وردت تسميتها في موسوعة "بلادنا فلسطين" لمصطفى مراد الدباغ، الذي ذكر أن الخربة كانت تحتوي مغائر وبقايا آثارٍ رومانية ومعالمَ طريق.

تشير الرواية الشفوية للأجيال المتعاقبة على القرية، أن الوجود السكاني الأول فيها يقدر عمره بثلاثمئة عام، ابتداءً بجدّ عائلة أبو شرار الذي قدم من شبه الجزيرة العربية.

وفق الروايات الشفوية، فإن الوجود السكاني الأول في فقيقيس يقدره عمره بثلاثمئة عام

هذه الرواية، إحدى حكاياتٍ كثيرة يتوارثها الناس في فقيقيس، كانت تُحكى سابقًا في مضافة القرية بشقيها الشتوي الذي كان سقيفة في بطن الجبل اندثرت آثارها بسبب التطور العمراني، والصيفي الذي كان شجرةً لا تزال قائمة إلى اليوم، تعرفها أجيال القرية المتوالية باسم "البلوطة المربية".

"البلوطة المربية"

جاءت تسمية "البلوطة المربية" من امتداد اعتناء أهل القرية جميعًا بهذه الشجرة وما حولها منذ أول وجودهم وحتى اليوم، فتحس أنها ابنة كل بيت. وهي أيضًا، الشاهد الباقي على كل قصصهم وليالي سمرهم، وأفراحهم وأتراحهم وخيرِ ضيافتهم لمن وفد عليهم مستغيثًا أو زائرًا أو عابر سبيل.

تشرف "البلوطة المربية" على أرياف جنوب غرب دورا، كما على قرى قضاء الخليل المحتلة عام 1948، التي هاجر جزءٌ من أهلها إلى فُقيقيس، كما لها إطلالةٌ على الساحل الفلسطيني  تخلبُ اللبَّ لسحرها، فتقابلك من هناك في الأفق غزة وعسقلان وأسدود، كلُّ واحدةٍ منها تبدو في التقائها مع السماء بتولًا في محرابها بأتم خشوعها.  

إطلالة "البلوطة المربية" على ساحل فلسطين

في حديثنا معه، ينقل طه أبو شرار (66 عامًا) شهادة والده محمد ( 1922-2015)، أنه قبل عام 1948 تركزَّ وجود سكان قرى قضاء الخليل وبئر السبع المهجرة في القرية خلال فصلي الشتاء والربيع، لغرض رعاية المواشي، حيث كانت تمتاز بمساحاتٍ واسعةٍ ذات غطاء نباتي كثيف أقرب لكونه غابات من أشجار البلوط والخروب والزيتون واللوزيات. وكانت كل عائلةٍ تسكن مغارة من المغائر الموزعة في الجبال التي تقوم عليها القرية، فيما كانوا في الصيف والخريف يتجهون غربًا لأراضيهم داخل الخط الأخضر، لإتمام موسم الحصاد، و هكذا ظلت تدور حياتهم حتى وقوع النكبة.

لدى وقوع النكبة، هاجر أهل قرى قضاء الخليل ممن يمتلكون أراضي في فقيقيس إليها، فاستقرت فيها عائلاتٌ من قرية مُرّان وأم الشقف والدوايمة وكوكبة، كعائلة أولاد محمد، والعواودة، والدراويش، وأبوشرار، كما استقرت فيها عائلاتا معاريف والعكيمي من قضاء بئر السبع.

ووفق أبو شرار، فإن رجال القرية إثر فقدانهم أراضيهم ومالهم خلال النكبة، اضطروا للعمل في تحطيب الأشجار وتصنيع الفحم، ما أدى لتضاؤل كثافة الغطاء النباتي للقرية خلال أقل من 5 سنوات منذ تاريخ النكبة. فيما عملت النساء في غزل السجاد من صوف الأغنام وصناعة الفخار، ونسيج ملابس الصوف.

بعد النكبة، عمل أهل فقيقيس في التحطيب وصناعة الفحم، ما أدى لتضاؤل كثافة الغطاء النباتي للقرية خلال أقل من 5 سنوات

ويُضيف، أن فترة ما بين النكبة والنكسة شهدت حالة استقرار لسكان القرية في عيشهم و أعمالهم، لكن حلول نكسة 1967 أعاد بعثرةَ هدوئها، فهجرتها العائلاتُ البدوية وعائلة الدراويش تحت سياط الخوف من تكرار مذابح النكبة، فيما لجأت بقية العائلات إلى الجبال بعيدًا عن بيوتها لأسبوعين تقريبًا، حتى شاهدوا القوات الإسرائيلية تبسط سيطرتها على "جنّتهم" الصغيرة.

 وكانت قوة من الجيش الأردني تكمن في نقطةٍ أعلى أحد جبال القرية، وحفرت بمعاونة الأهل خنادق للقتال الذي انتهى في القرية قبل أن يبدأ.

خنادق حفرها الجيش الأردني

فجَّرَ الجيش الأردني ألغامًا على الطريق الرئيسي الذي يمر من القرية غربًا، لقطع الطريق على القوات الإسرائيلية كي لا تصل القرية، لكن المباغتة كانت بأن ترك أفراد الجيش نقطتهم العسكرية، وخلفوا أسلحتهم كما هي، بينما دخلت القوات الإسرائيلية من جهة الشرق.

ويروي أهالي القرية، أنهم عقب مغادرة الجيش الأردني عثروا على أسلحةٍ غير مستعملة تعود للجيش، فدفنها أحد رجال القرية دون أن يدري به أحدٌ أملاً منه بعودة الجيش الأردني. مات الرجل منذ بضع سنوات، فلا أمله اكتمل، ولا قهره انحسر، ثم عُثِر على تلك القطع بعد وفاته وقد أكلها الصدأ حتى بدت كأنها تراب.

رجُل من فقيقيس دفن أسلحة الجيش الأردني بعد النكسة أملاً بعودة الجيش لها، وبعد وفاته عُثِر عليها وقد أكلها الصدأ

ووفق أبو شرار، فإن تاريخ الطريق الرئيسي المار من القرية يعود إلى عهد الاحتلال الإنجليزي، حيث شقت سلطات الاحتلال الطريق ليصل بين الخليل وأريافها الغربية، كما هو الطريق الوحيد الذي كان يصل الخليل بغزة مرورًا بأراضي 1948.

الطريق الرئيسي في فقيقيس: الخليل-الخط الأخضر-غزة

أمينة أبو شرار (70 عامًا)، شاهدةٌ على العمل الفدائي إبان الثورة الفلسطينية، أوضحت لنا أن هذا الطريق شهد في سبعينات القرن الماضي أعمالاً فدائية قام بها ثوارٌ من حركة فتح، عُرِف منهم الشهداء باجس أبو عطوان، وخليل العواودة، وعلي أبو مليحة.

وتروي أن العملية التي تكررت أكثر من مرة على هذا الطريق، تمثلت في رصد حافلاتٍ تابعة لشركة "إيجد" الإسرائيلية للمواصلات العامة، حتى إذا أفرغت حمولتها من العمال الفلسطينيين الذين كانوا يركبونها في طريقهم إلى داخل الخط الأخضر، يركبها الثوار ويُجبرون سائقها -وهو فلسطيني بالعادة- على أن يركن الحافلة على الرصيف.

يبلغ السائق الشركة بأن "ملثمين" اختطفوا منه الحافلة، بعد أن يكون قد ركنها بأمر الفدائيين على رصيف الطريق المشرف على منحدرٍ جبلي، ثم بقوتهم الجسدية وبعض معدات مساعدة، يقلبون الحافلة عن الرصيف لتهوي في الوادي وتتحطم تمامًا.

الطريق الرئيس في  فقيقيس فتحه الاحتلال البريطاني، واستخدمه الثوار بقوة بعد النكسة

على امتداد ذات الطريق عام 2000، حدثت عملية إطلاق نار على نقطة عسكرية قائمة عند مثلث بيت عوا، دفعت بالجيش لمصادرة أراضٍ على يمين الطريق فيها بئر ماء رئيسي ومزروعة بالزيتون، لصالح المستوطنين، ثم إغلاق الطريق بشكل كامل قاطعًا بذلك اتصال الريف الغربي لدورا بمركزها.

ظلت المجالس القروية منذ ذلك التاريخ في مرافعاتٍ أمام المحكمة العليا حتى انتزعت قرارًا بإعادة فتح الطريق عام 2010.

في عام 1980، وضع الجيش الإسرائيلي يده بقرارٍ من المحكمة العليا على 40 دونمًا من أراضي جبل تعود ملكيته لعائلتي أولاد محمد وأبوشرار، زاعمًا أنها أراضٍ حكومية، وأقام عليها أول نقطة عسكرية إسرائيلية في المنطقة. بعد اتفاق أوسلو، تطور المعسكر إلى بؤرة استيطانية تُعرف اليوم باسم "نيجوهوت"، ماتزال تتوسع على حساب الأراضي المحيطة بها، وقد أقرت حكومة الاحتلال مؤخرًا إقامة 260 وحدة سكنية فيها مؤخرًا.

مستوطنة نيجوهوت

منذ عام 1980، احتدمت المعركة الديموغرافية في القرية، حيث منعت سلطات الاحتلال، السكان، من البناء فيها، وتعرضت معظم البيوت للهدم خلال أحداث الانتفاضة الأولى بحجة عدم الترخيص، فيما نجت بعض البيوت بعد أن دفع أصحابها أموالًا طائلة لمؤسسات "الإدارة المدنية" التي كانت الضفة الغربية تخضع لحكمها قبل قدوم السلطة.

أجبرت هذه السياسة كثيرًا من شباب القرية الذين لم يرثوا بيوت آبائهم على البناء خارج حدودها، الأمر الذي أثر بشكل حاد على عدد سكان القرية. فيما انحسر مؤخرًا تأثير هذه السياسة، بعد ضم القرية مدنيًا لمؤسسات الحكم المحلي التابعة للسلطة، فصار التوسع ضمن حدود المخطط الهيكيلي غير مهدد بالهدم، رغم أن مساحة المخطط الهيكلي نسبةً لمجموع مساحات أراضي القرية ضئيلة جدًا.

بدوي جاد الله رفض التوقيع على أوراق إسرائيلية لتزويد مسكنه بالكهرباء، لمنع استخدامها في تهجيره

في مطلع سبيعنات القرن الماضي استقرَّ رجلٌ يدعى بدوي جاد الله في مغارة بطن الجبل الذي تقوم عليه مستوطنة "نيجوهوت" الآن. ومنذ استئناف الاستيطان فيها عقب اتفاق أوسلو، يتعرض الرجل وأولاده وأحفاده لمغرياتٍ وضغوطاتٍ لإخلاء موقع سكنهم لصالح أراضي المستوطنة، كان منها هدم المنزل مرتين، إضافة لهجماتٍ بين الحين والآخر ينفذها مستوطنون.

وحاولت جمعياتٌ استيطانيةٌ عدة مراتٍ الالتفاف على الرجل وأولاده بإغرائهم لتوقيع أوراقٍ بدعوى توصيل الكهرباء إلى بيوتهم، إلا أن العائلة تمسكت برفض ذلك خوفًا من استخدام هذه الأوراق في تهجيرها. وقبل أربع سنواتٍ فقط، حصلت عائلة جاد الله على حقها في الكهرباء، بدعمٍ من مؤسسات الحكم المحلي، دون أن ترضخ للاحتلال.

خلال شهر آب/أغسطس الجاري، تعرضت أراضي عائلة جاد الله للهجوم من قبل المستوطنين، وضُرِبَ أفرادها على يد المستوطنين الذين حاولوا زرع أشجارٍ في أراضٍ تعود ملكيتها للعائلة، بزعم أنها أراضٍ أميرية، فما كان من العائلة إلا أن دفعت بقطيع الأغنام الذي تملكه كاملًا إلى الأرض كطريقة طرد للمستوطنين.


اقرأ/ي أيضًا: 

الحياة تعود لقصر عمره 600 عام ويُصبح فندقًا

وادي قانا.. هل تتحقق النكبة الثانية؟

الظاهرية.. غنيّة بالآثار فقيرة بالزوّار