نور السجن الذي أصابنا بالعمى
معصوب العينين وصلت إلى سجن "سديه تيمان"، ومنذ تلك اللحظة، ظل الظلام يلتصق بي شهوراً حتى صار جزءاً مني، هناك، الزمن بلا شكل، والمكان لا يُرى، بل يُحسّ: خطوات الجنود على الأرض الباردة، رائحة العفن،...
صحفي وباحث فلسطيني، حاصل على درجة الماجستير في الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية في مدينة غزة.
معصوب العينين وصلت إلى سجن "سديه تيمان"، ومنذ تلك اللحظة، ظل الظلام يلتصق بي شهوراً حتى صار جزءاً مني، هناك، الزمن بلا شكل، والمكان لا يُرى، بل يُحسّ: خطوات الجنود على الأرض الباردة، رائحة العفن،...
ما إن شدّوا القيد على معصمي، حتى أسدلوا على عينيّ ليلًا لا ينقضي، عصبة سوداء لكنها كانت أشدّ قتامة من السواد ذاته، ظننتها إجراءً عابراً، وأنها عتمة قصيرة لإجراء جولة تحقيق؛ لكنها كانت البداية لحفرة...
لا يدرك السجّان، أن الجدران حين تُغلق على الجسد، قد تفتح أبواباً أخرى في القلب، أبواباً لم يكن الأسير يعرفها من قبل. فهناك، في الزنازين الباردة، يتعلّم الإنسان عبادة نادرة: عبادة التأمل، العبادة التي...
ما إن أطلّ نور الحرية من فتحةٍ ضيقةٍ في شباك الحافلة التي أقلّتني من سجن النقب، حتى شعرت أنني أتنفس للمرة الأولى، كان قلبي يسبقني في القفز نحو الحياة، وبصري يتفحّص الوجوه كأنّي أبحث عن شيءٍ فُقد مني...
بهيكل عظمي يتكئ على جلده، خرجت من سجن "سدي تيمان" بعدما خسرت نصف وزني، ليس لأنني استثناء، بل لأني كنت محظوظاً، فبعض رفاقي خسروا أكثر من 80 كيلوغراماً، أي وزن إنسان كامل، ومعه خسروا أجزاءً من ذواتهم....
جنديان يمسكان أسيراً كأنما يجرّان ظلاً منهكاً لا جسداً، مقيّد اليدين، ومعصوب العينين، تغطي الكدمات ملامحه، يترنّح بين أيديهما لا تعباً فقط، بل من متعة ساديّة ينهلونها من عجزه، ثم يقذفانه في شاحنة...
حين أحكم الجندي القيد على يديّ ووضعهما خلف ظهري، شعرتُ أن الدنيا انسحبت من أطرافي، كل انشغالات الحياة تلاشت، لهاثها، وتطلعاتها، وهمومها انطفأت فجأة، ولم يبقَ إلا صوت داخلي يقول: "اقترب من الله أكثر.....
قررت أن أخوض مغامرة صعبة ربما لن أعود منها حياً، وأطلب زيارة الطبيب عسى أن أكون محظوظاً وأحصل على حبة مسكن فقط. كان ذلك ضربا من الجنون، فالطريق إلى ما يُسمى "طبيباً" في سجون الاحتلال، ليس إلا درباً...
"لا أعلم إن كانت هناك حياة بعد الموت، أو إن كان مصيركم إلى جنّة أو نار، لكن ما أعلمه يقيناً أنّكم لن تخرجوا من هنا أحياء. أهلاً بكم في جحيم إسرائيل." هكذا صرخ جنديّ من جنود الاحتلال، وهو يركلني بعنف...