Bisan

"إسرائيل" تبحث عن أمنها القومي في تيك توك

Soruce ثقافة
"إسرائيل" تبحث عن أمنها القومي في تيك توك
إبراهيم الحاج

إبراهيم الحاج

باحث فلسطيني من قطاع غزة.

في خريف 2025، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك أمام مجموعة من المؤثّرين الأمريكيين، وبنبرة الواثق قال جملته التي ستلخّص أزمة "إسرائيل" في القرن الرقمي: "منصّات التواصل هي السلاح الحقيقي في معركة الرواية".

كان يقصد الحرب على غزة، لكن ليس بالمعنى الميداني التقليدي، إذ لم يكن الحديث عن صواريخ أو تحركات قوات بقدر ما كان يتعلق بالتحكم في تدفق الصورة والمعلومة. المقصود كان "تيك توك"، المنصة الترفيهية التي تحولت إلى وسيط بصري ذي قدرة توزيع وامتداد عالمي، أعادت رسم مساحات الوصول الإعلامي وقلّصت قدرة الجهات الرسمية على احتكار السرد.

من هنا ينبع السؤال المركزي: كيف تحولت منصة صُممت للمقاطع القصيرة إلى قضية أمن قومي؟ وكيف وجدت دولة مرتكزة على الهيمنة التقنية والاستخبارية نفسها أمام بنية خوارزمية خارج نطاق سيطرتها؟

تهديد متعدد المستويات

في دراسة للباحثة الإسرائيلية أوفير ديان بعنوان "ليست مجرد رقصات: تيك توك وأمن إسرائيل القومي"، نُشرت في معهد الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) في كانون الأول/ ديسمبر 2024، يظهر كيف تحوّل تطبيق ترفيهي إلى ملفّ أمني من الدرجة الأولى، خلف هذا العنوان المتناقض ظاهرياً بين الرقص و"أمن الدولة"، تكشف ديان عن أحد أبرز التحوّلات في نظرة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى الفضاء الرقمي باعتباره ميدان صراع قائما بذاته.

ديان ليست باحثة أكاديمية تقليدية، بل تنحدر من داخل المنظومة العسكرية الإسرائيلية نفسها، إذ خدمت في وحدة المتحدث باسم جيش الاحتلال خلال حرب عام 2014 ثم في حرب الإبادة، وتشغل حالياً موقعاً بحثياً في مركز "غليزر" لسياسات "إسرائيل" - الصين. هذه الخلفية تفسّر عدسة التحليل الأمني التي تتناول بها المنصات الرقمية، إذ ترى فيها أدوات حرب ناعمة تتطلّب مراقبة وتنظيماً لا يقلّان عما هو في الميدان العسكري.

اقرؤوا المزيد: "إسرائيل" على الجبهة الإلكترونيّة

تبدأ الدراسة من ملاحظة مركزية مفادها أن "تيك توك" خرج عن سيطرة "إسرائيل" خلال الحرب على غزة، ولم يعد مساحةً ترفيهية، بل حيزاً بصرياً موازياً للواقع الميداني، تُنتَج فيه روايات وصور تُعيد تشكيل الرأي العام العالمي، بناءً على ذلك تُصنّف ديان التطبيق بأنه "تهديد متعدّد المستويات": أمني، سيبراني، ورمزي.

على المستوى الأمني الإسرائيلي، تشير إلى أن الانتشار الواسع للتطبيق بين الجنود والمجندات الإسرائيليين أدى إلى تسرّب غير مقصود لمعلومات حسّاسة: مواقع عسكرية، ومؤشرات زمنية، وأنماط حركة، تُتيح للخصوم بناء تقديرات ميدانية دقيقة. في نظر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هذا الانكشاف لم يعد حادثة فردية، بل نمطاً مقلقاً يفرض إعادة تعريف العلاقة بين الجيش الإسرائيلي والمنصات.

أما على المستوى السيبراني، فتتناول ديان مسألة الخصوصية باعتبارها ملفّاً أمنيَّاً صِرفاً، فالمنصة، المملوكة لشركة صينية خاضعة لقوانين الاستخبارات في بكين، تُنتج تدفقات ضخمة من البيانات الشخصية والمؤسسية قد تُستغل من قِبل أطراف أجنبية، وهكذا يصبح "تيك توك" – بحسبها - تهديداً مزدوجاً؛ فمن جهةٍ، قناةٌ تُسرّب معلومات من داخل "إسرائيل"، ومن جهة أخرى، منبرٌ لبث روايات معادية من الخارج.

وتخلص الدراسة إلى أن الحدود بين الجبهة العسكرية والجبهة الرقمية تتلاشى تدريجياً، فالمعركة على الرأي العام باتت امتداداً مباشراً للمعركة الميدانية، والتأثير الذي تحقّقه مقاطع مصوّرة من غزة، بذكائها وبساطتها، قد يتجاوز أثر عملية عسكرية كاملة في تغيير توازنات الشرعية الدولية.

اقرؤوا المزيد: غوغل والاستخبارات.. معلوماتك التي لا تظهر في الإعلانات

من هنا، توصي الدراسة ببناء سياسة وطنية شاملة تنظم استخدام موظفي القطاع الحكومي وجيش الاحتلال لتطبيقات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تيك توك، بدل التعامل مع كل واقعة على حدة.

وتشمل السياسة التي تقترحها ديان، وضع لوائح واضحة تحظر أو تقيّد استخدام المنصة داخل المؤسسات العسكرية والحكومية الإسرائيلية، وتطوير آلية دائمة لرصد المحتوى الذي تصنّفه "إسرائيل" "تحريضياً" أو "داعماً للإرهاب" والعمل على إزالته بسرعة بالتنسيق مع الشركة، بدلاً من حظر التطبيق بشكل كامل الذي ربما يهدد علاقتها مع الصين، ما يعكس البراغماتية الإسرائيلية المتزايدة في التعامل مع التكنولوجيا، المتمثلة بمحاصرة أخطارها عبر القوانين والتحالفات والشراكات الاستخبارية.

خوارزمية الطوفان

بدأ إدراك "إسرائيل" لطبيعة الفضاء الرقمي يتغير جذرياً منذ معركة سيف القدس في 10- 21 أيار/ مايو 2021، ولكن بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ازداد تنبهها إلى حجم التأثير الذي توسع وصولاً إلى تطبيقي تيك توك وتليغرام، بعد أن كان مقتصراً على تويتر وفيسبوك ويوتيوب، والتي كانت تعاملها كونها ساحات التأثير المركزية في الرأي العام. 

بحسب تقرير صادر عن مختبر دراسات وسائل التواصل والكراهية التابع لـ "معهد دراسة معاداة السامية المعاصرة" في جامعة "إنديانا"، تحولت منصة تيك توك إلى الساحة الأكثر تأثيراً في تشكيل المواقف العالمية من "إسرائيل"، وسجّلت ارتفاعاً حاداً في حجم التفاعلات السلبية تجاهها مقارنة ببقية المنصات.

في جلسات الكنيست التي نوقشت فيها الظاهرة، عبّر أعضاء عن دهشتهم من أن "إسرائيل" لم تبنِ حتى الآن سياسة موحّدة تجاه التطبيق، رغم أن ملايين الإسرائيليين يستخدمونه، ومنهم وزراء ومسؤولون حكوميون، ما يجعل "إسرائيل" مكشوفة على مستوى الصورة والمعلومة معاً.

ترافق هذا الإدراك المتأخر مع تصاعد الاهتمام الأمني بظاهرة "الجنود المؤثرين"، أي أولئك الذين يصورون يومياتهم على الجبهة وينشرونها، فيتحول الجيش الإسرائيلي من حيث لا يقصد إلى مصدر محتوى يصعب التحكم به.

اقرؤوا المزيد: أسياد في الأرض: تكنولوجيا المقاومة التوحيدية

في المقابل، مثّل تيك توك للفلسطينيين فضاءً غير مسبوق لكسر الحصار الإعلامي، إذ إنه خلال الحرب، تحوّلت المنصة إلى أرشيف بصري للحرب والدمار والنجاة، ونقلت مئات الحسابات الفردية تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف، وأصبحت مصدراً للصحافة العالمية نفسها.

هذه الدينامية جعلت السيطرة الإسرائيلية على السردية الإعلامية تكاد تصبح مستحيلة تقريباً، فكل مقطع ينتشر يحمل أثراً على الشرعية الدولية أكثر مما يمكن لأي بيان رسمي أن يصنعه. بالنسبة إلى "إسرائيل"، هذا تطور خطير، فالمجتمع الدولي الذي كانت تُدار روايته عبر القنوات الدبلوماسية والإعلام التقليدي، صار اليوم يتشكّل على يد خوارزمية صينية تعرض صوراً من غزة على ملايين المستخدمين حول العالم في لحظة واحدة.

وفق استطلاع "Gallup" لعام 2024، انخفض تأييد "إسرائيل" بين الشباب الأميركي دون سن 35 عاماً إلى 38% فقط، وهو أدنى مستوى منذ تأسيس "إسرائيل"، وتؤكد بيانات "Pew Research Center" في العام نفسه أن 65% من الأمريكيين تحت الثلاثين يعتمدون على تيك توك وإنستغرام كمصدر رئيسي للأخبار، مقابل أقل من 20% للتلفزيون التقليدي، كما أظهر استطلاع Axios–GenForward 2024 أن 54% من الشباب الأمريكيين باتوا يشككون في الرواية الإسرائيلية بعد مشاهداتهم لمقاطع الحرب على تيك توك.

هذه الأرقام، التي تتابعها مراكز القرار في تل أبيب وواشنطن على حد سواء، تعكس تحوّلاً عميقاً في بنية الرأي العام الغربي، ما دفع "إسرائيل" إلى إنشاء مجموعات متخصصة من وحدة السايبر في وزارتي العدل والخارجية الإسرائيليتين شكلت منذ 2024 "مركز رصدٍ للمحتوى الفلسطيني على تيك توك"، يتابع المقاطع التي تحقق انتشاراً واسعاً ويقدم بلاغات جماعية لإزالتها.

من العداء لتيك توك إلى إدارته 

لم يعد تيك توك بالنسبة إلى "إسرائيل" مجرد تطبيق أجنبي، بل صار نموذجا ماديا يظهر كيف يمكن لمنصة غير خاضعة للهيمنة الغربية أن تغيّر توازن القوة في الفضاء الرقمي، وأصبح ما تخشاه "إسرائيل" فعلياً هو فقدان السيطرة على "النظام المعرفي" الذي اعتادت لعقود أن تكون جزءاً من نواته الغربية، من الجامعات إلى وسائل الإعلام الكبرى.

الآن، هناك منصة صينية تُعيد توزيع الصوت والصورة على نحو لا يمكن التنبؤ به، وتفتح الباب لانتشار رواية الفلسطينيين من دون مرشح ولا وساطة، من جهة أخرى، يشير مسار التعامل الإسرائيلي إلى أن المشكلة لا تكمن في تيك توك وحده، بل في البنية الكاملة لمنصات التواصل، فالجيش الإسرائيلي نفسه يملك وحدات متخصصة في الرصد الرقمي والتأثير، ويُنتج محتوى موجهاً بلغات مختلفة، ويحاول استثمار الخوارزميات ذاتها لبناء روايته، لكنه يفشل غالباً في منافسة الصورة الميدانية القادمة من غزة، التي تملك قوة الشهادة العفوية.

لذلك تتعامل "إسرائيل" مع تيك توك بعقدةٍ مزدوجة، تريد الاستفادة منه كأداة دعاية، وتخافه كأداة فضح، وهذا التناقض يجعل العلاقة معه مضطربة، تتأرجح بين الحظر والتوظيف، بين الخشية والاستثمار.

اقرؤوا المزيد: بيغاسوس وأخواتها: جواسيس "إسرائيل" في العالم

يمتد حضور الجيش الإسرائيلي في الفضاء الرقمي إلى المنصات الأكثر انتشاراً بين فئة الشباب، وهي الفئة التي تُشكّل عماد القوة البشرية في الجيش، سواء خلال فترة الخدمة الإلزامية أو ضمن صفوف الاحتياط، ومن هذا المنطلق، أنشأ جيش الاحتلال في نهاية كانون الثاني/ يناير 2020 حسابه الرسمي على تطبيق "تيك توك"، ليقدّم محتوى يجمع بين المشاهد التدريبية الصعبة واللقطات الإنسانية الخفيفة، مثل عروض الزواج أو لحظات الاستعداد في الثكنات، في محاولة لخلق صورة "ودية" للجيش أمام الأجيال الشابة.

ويتعمّد هذا التوجه استخدام الطابع "الساخر والمرح" وسيلةَ جذب، ما أثار ردود فعل سلبية وانتقادات واسعة، إذ رأت فيه وسائل إعلام إسرائيلية أنه تسويق سطحي لآلة عسكرية تخوض حروباً دامية، وأن "الصدمة" المقصودة من هذا الخطاب الدعائي ليست إلا وسيلة لضمان الانتشار الجماهيري.

عملياً، لا يمكن فهم العلاقة بين "إسرائيل" وتيك توك إلا في إطار أوسع، يتمثل بتحوّل الحرب على غزة إلى أول حرب تُوثّق لحظة بلحظة من قِبل المدنيين أنفسهم، هكذا لم تعد "إسرائيل" تحتكر السردية البصرية كما في حروبها السابقة، لأن كل فلسطيني يحمل هاتفاً متصلاً بمنصة توصل صوته إلى ملايين في العالم.

لذلك تسعى "إسرائيل" إلى تحويل معركتها مع تيك توك إلى معركة تنظيم وتشريع وتعاون استخباراتي، غير أن كل هذه الإجراءات تصطدم بطبيعة الفضاء الجديد الذي لا يعترف بالحدود ولا بالقوانين الوطنية، فحتى لو وضعت "إسرائيل" ألف لائحة، فإنّ مقطعاً واحداً يصوره طفل في خان يونس قد يبدّد كل الجهد المؤسسي في لحظة واحدة.

اقرؤوا المزيد: كيف يُقرّر فيسبوك حذف منشورك؟

بهذا المعنى، فإن العلاقة بين "إسرائيل" وتيك توك تكشف حدود القوة الإسرائيلية في عصر الصورة اللحظية، فـ "إسرائيل" التي بنت منظومتها على التفوق التقني والاستخباري تجد نفسها عاجزة أمام خوارزمية تصممها شركة في بكين وتديرها شبكات من المستخدمين حول العالم.

ومع أن "إسرائيل" تحاول أن تتعامل مع تيك توك باعتباره "مشكلة يمكن إدارتها"، فإن الحقيقة أن التطبيق أصبح جزءاً من بيئة الحرب نفسها، وأي تسوية مستقبلية في غزة أو في العلاقات الدولية لن تكون ممكنة من دون أخذ هذا البعد في الحسبان، ففي زمن تُصاغ فيه الشرعية بالصورة أكثر مما تُصاغ بالقانون، تتحول المنصات إلى ساحات تقرير مصير. 

ماذا يقول تيك توك؟

خلال الحرب الأخيرة، أصدرت شركة "بايت دانس" تقريراً دفاعياً مطولاً بعنوان "الحقيقة حول محتوى تيك توك خلال الحرب بين إسرائيل وحماس"، رداً على اتهامات إسرائيلية وأمريكية للمنصة بالتحيز ضد "إسرائيل" وترويج رواية الفلسطينيين.

مثَّل التقرير محاولة لتفنيد المزاعم الأمريكية والإسرائيلية، موضحاً أن الفروقات في انتشار الوسوم (#FreePalestine مقابل #StandWithIsrael) لا تعكس انحيازاً خوارزمياً، بل اختلافاً في الاستخدام الجغرافي، إذ إن مناطق الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا تضم النسبة الأكبر من المستخدمين المتفاعلين مع الوسوم الفلسطينية.

وأشار التقرير إلى أن المحتوى المرتبط بـ "إسرائيل" يحقق نسبة مشاهدات أعلى داخل الولايات المتحدة (68% أكثر لكل فيديو)، وأن أغلب المقاطع المؤيدة لـ "إسرائيل" أُنشئت خلال الثلاثين يوماً التالية لعملية السابع من أكتوبر، لكنه في الوقت نفسه كشف حجم الاستجابة التقنية الهائل من الشركة للحرب: أكثر من 925 ألف مقطع أُزيل من المنطقة بين 7 -31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بحجة انتهاك سياسات المنصة بشأن العنف والتحريض والمعلومات المضللة، إضافة إلى إزالة 730 ألف فيديو تحريضي، و24 مليون حساب وهمي عالمياً.

كما أعلنت الشركة عن إنشاء "مركز طوارئ" مكوَّن من 40 ألف موظف ومراجع محتوى ناطقين بالعربية والعبرية لمتابعة الحرب، مؤكدة أن خوارزمياتها لا "تنحاز" لأي طرف، وأنها تخضع لتدقيق طرف ثالث في الولايات المتحدة للتحقق من شفافية الكود البرمجي.

الرسالة الأساسية التي أرادت الشركة إيصالها أن التفاعل الواسع مع المحتوى الفلسطيني يعكس ميولاً سابقة لدى الأجيال الشابة، لا تأثيراً متعمداً من الخوارزمية. 

من المعركة إلى الصفقة 

في اللقاء نفسه الذي جمع بنيامين نتنياهو والمؤثرين، قال نتنياهو إن "صفقة تيك توك" الجارية في واشنطن هي "أهم عملية شراء الآن"، مشيراً إلى أن السيطرة على المنصة تعني السيطرة على "وعي الشباب الأمريكي"، الذين باتوا، على حد قوله، أقل تعاطفاً مع "إسرائيل" من أي وقت مضى.

اقرؤوا المزيد: فلسطين في أميركا: جيل Z لم يضل الطريق

وأضاف بابتسامة موجهة للمؤثرين: "علينا أن نتحدث مع إيلون، إنه صديق لا عدو"، في إشارة إلى إيلون ماسك ومنصته "إكس"، إذ يرى نتنياهو أن امتلاك مفاتيح المنصة التي تشكل وعي جيلٍ كاملٍ في أمريكا قد يكون طوق النجاة الأخير للدعاية الإسرائيلية. بهذا المعنى، جاءت كلماته بمنزلة "بيان نوايا" لتحالف تقني - سياسي ناشئ، تدرك "إسرائيل" أنه قد يعيد توازن السردية في الفضاء الرقمي الغربي.

وبالفعل، في الإطار الزمني لتلك التصريحات الصادرة عن نتنياهو، أصدر دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يدعم صفقة بيع عمليات "تيك توك" الأمريكية لمجموعة مستثمرين بقيادة شركة "أوراكل" التي يملكها لاري إليسون، أحد أبرز الداعمين لـ "إسرائيل" في وادي السيليكون.

اقرؤوا المزيد: لماذا تموّل مايكروسوفت مراقبة الفلسطينيين في الضفة؟

القرار أنهى معركة تشريعية طويلة على ملكية المنصة، توِّجت بحكم من المحكمة العليا في كانون الثاني/ يناير 2025 يُخيّر شركة "بايت دانس" بين البيع أو الحظر، وبموجب الاتفاق، ستظل حصة الشركة الصينية الأم أقل من 20%، بينما تنتقل السيطرة إلى تحالف من رجال الأعمال الأمريكيين بينهم إليسون وروبرت مردوخ ومايكل دِل، إضافة إلى حصة حكومية أمريكية تصل إلى 50% عبر تسوية خاصة، مع إشراف مباشر على خوارزمية التوصية والبيانات.

قُدّرت الصفقة بنحو 14 مليار دولار، وتُعدُّ في نظر الاحتلال خطوة سياسية أكثر مما هي اقتصادية، لأنها تفتح الباب أمام إدماج المنصة في منظومة النفوذ الغربي، وتمنح واشنطن ومن خلفها "إسرائيل" قدرة غير مسبوقة على مراقبة المحتوى الموجَّه للجمهور الأمريكي والغربي. بالنسبة إلى نتنياهو، هذه ليست صفقة بيع، بل "تحرير خوارزمية" من قبضة الصين ومن التفاعل الحر الذي جعل تيك توك أخطر منصة على الرواية الإسرائيلية منذ قيام الكيان.

السيطرة الأمريكية على "تيك توك" جرت عبر مسارٍ تشريعي واستراتيجي متدرّج بدأ منذ عام 2020، عندما أصدر ترامب أول أمرٍ تنفيذي يطالب شركة "بايت دانس" الصينية ببيع عملياتها في الولايات المتحدة أو مواجهة الحظر الكامل.

في السنوات التالية، تولّت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS) متابعة الملف باعتباره قضية أمن قومي، وفرضت على الشركة نقل بيانات المستخدمين الأمريكيين إلى خوادم داخل الأراضي الأمريكية بإشراف شركات محلية.

اقرؤوا المزيد: حين يُصبح الاحتلال مدرّب تنمية بشريّة 

داخل هذه البنية الجديدة للملكية برز البعد الإسرائيلي بوضوح، إذ تُعد "أوراكل" واحدة من أكثر الشركات ارتباطاً بـ "إسرائيل" على مستوى الاستثمارات والعلاقات التقنية، ويُعرف مؤسسها إليسون بدعمه الصريح للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، كما انضمت شخصيات مالية وإعلامية مؤثرة مثل روبرت مردوخ ومايكل دِل، وكلاهما من الداعمين التقليديين لـ "إسرائيل"، إلى التحالف المسيطر على المنصة، وفي خلفية المشهد أبدت جماعات ضغط يهودية أمريكية دعمها العلني للصفقة، وعدَّتها خطوة لحماية "الفضاء الرقمي الغربي" من الخطاب المناهض لـ "إسرائيل".

لم يكن نقل السيطرة على "تيك توك" مجرّد عملية اقتصادية، بل جزءاً من إعادة توزيع القوة داخل النظام الرقمي العالمي، بحيث تُدمج المنصة في البنية الغربية - الإسرائيلية للهيمنة على تدفق المعلومات، وقد وجدت "إسرائيل" في هذه التطورات فرصة لتثبيت نفوذها داخل ما يمكن تسميته "البنية التحتية السردية" للعالم الغربي. لقد تحوّلت المنصة من مسرح ترفيهي إلى موقع نفوذ سياسي وثقافي، تُدار فيه معركة الصورة والرواية بنفس أدوات السيطرة التي تُدار بها السياسة والاقتصاد.