Bisan

أنا وأختي.. وثالث يتجسس على اتصالنا

أنا وأختي.. وثالث يتجسس على اتصالنا
أحمد النبيه

أحمد النبيه

طبيبٌ مغتربٌ قيد الإعداد، غزيُّ الأصل والمنشأ.

موحشة وقاسية، كانت ليلة 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، نمت فيها وأنا أتمنى ألا يطلُعَ عليَّ الصبح، كان القلب يغلي بالحزن، والنفس منهكة، والذهن يحاول عبثاً أن يتعامل مع اللا منطق الذي صار واقعاً يومياً. نمت عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وعدد الشهداء لا يتجاوز 35 شهيداً، استيقظت فجراً فوجدته قد تجاوز الـ 60، وبحلول التاسعة صباحاً بلغ المائة شهيد. 

في أقل من 12 ساعة اختطف العابرون منا مائة باقٍ، وكأن الغزيين يقتلعون اقتلاعاً كأشجار الزيتون التي يقتلعها أعداء الزيتون في أرياف بلادنا الشاسعة. حين قرأت الرقم مائة، شعرت بخنجر يخترق صدري، وصداع يطرق رأسي بلا توقف، هذه المشاعر تصاحبني منذ عامين بينما يحاول أهلي النجاة من المجزرة تلو الأخرى، أما أنا أقف عاجزاً حتى عن الاتصال بشقيقتي الكبرى للاطمئنان عليها إن نجت من جديد أيضاً. 

فمنذ بدء الإبادة، ونحن أبناء غزة في الغربة، نفقد تدريجياً وسائل اتصالاتنا مع عائلاتنا، بدءاً من قطع "إسرائيل" الكهرباء عن قطاع غزة في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثم انهيار شبكات الاتصال والإنترنت نتيجة القصف والتدمير في 27 من الشهر ذاته، وصولاً إلى حصارنا بالذكاء الاصطناعي وخوارزمياته، ما جعل اتصالاتنا مع أهلنا صعبة ومعقدة، وإن نجح الاتصال، فعلينا أن نكون حريصين في كل كلمة نقولها، فنحن نخاف أن تكون هذه المكالمات تحت رقابة جيش الاحتلال، وذلك ما أتناوله في بقية حديثي.

مكالمة تتحول إلى حلم!

في تلك الليلة، اخترق الاحتلال وقف إطلاق النار للمرة الثانية خلال أقلّ من 20 يوماً، وعندما غفت عيناي وأنا أتتبع بالأخبار، رأيت حلماً كان فيه أحمد، ابن شقيقتي الكبرى، ذلك الطفل الجميل، الحِركِيُّ، المحبوب، الذي انتزعت "إسرائيل" روحه وهو لم يتجاوز 11 عاماً من عمره، رأيته في مدرسته حزيناً، وكأنني كنت أزوره لأسأل معلميه عن سير دراسته، وواسيته في زيارتي.

 لم يكن الحلم مهماً بقدر الفكرة التي استقبلتني فور استيقاظي: أنا لم أهاتف والدته منذ بدء وقف إطلاق النار!

منذ بداية الإبادة، وجد الفلسطيني المغترب نفسه في ساحة حرب من نوع آخر، ساحة لا تُسمع فيها أصوات المدافع، لكن مجرياتها لا تقل ضراوة، حرب أدواتها الخوارزميات، والرقابة، والتنصت، والخوف، حرب عنوانها الذكاء الاصطناعي وحصار شبكات الاتصال.

في هذا العالم الرقمي المُربِك، أصبح الاتصال بأهلك في غزة فعلاً محفوفاَ بالمخاطر: كلمة عابرة مع خوارزمية لا تفهم سياق تلك الكلمة قد تُشكل خطراً عليك أو على عائلتك. 

اقرؤوا المزيد: "عقدة في الحلق".. الحزن في منفى غزة

خلال العامين الماضيين سجلت عشرات المواقف التي دعاني فيها أهلي، خصوصاً أبي وأمي، لعدم إتمام حديثي رغم أنني كنت أتحدث عن آراء سياسية بسيطة، وكنت أفعل ما يطلبون؛ لإدراكي مدى خوفهم عليَّ من قيود الدولة التي أعيش فيها، ولخوفي عليهم من مخاطر وسائل الذكاء الاصطناعي.

وأنا الذي لم يكن يمرّ عليَّ يومٌ واحد في غربتي - قبل الإبادة - دون أن أستمع فيه لصوت أمي وأحادثها طويلاً، تعلّمني الطبخ، وأحدّثها عن تفاصيل غربتي، أصبح صوتها - منذ بدء الإبادة - زائراً عابراً لا يكاد يمكث، صارت مكالمتي قصيرة، مقتضبة، سطحية: "كيفكم؟ بخير؟ الحمد لله… يلا سلام". 

هكذا بكل بساطة، لا تفاصيل، لا فضفضة، مجرد كلمات نجاة لتؤكد أنهم ما زالوا على قيد الحياة حتى حينه، هذا إن تمت المكالمة أصلاً؛ فبعدما دمّر الاحتلال البنية التحتية لشبكات الاتصالات والإنترنت، أصبح التواصل نادراً وصعباً جداً، إذ إن محاولة واحدة فقط من كل عشر محاولات قد تنجح في التقاط الشبكة.

وإن نجحنا بالاتصال، فهناك عراقيل أخرى تنتظرنا: نفاد بطاريات الهواتف سريعاً مع صعوبة إعادة شحنها في ظل انقطاع الكهرباء المستمر، أو أن الهواتف معطّلة تحتاج إلى إصلاح في وقت كانت فيه أسعار التصليح أو الهواتف الجديدة فلكية؛ إذ لم تدخل قطع غيار أو أجهزة جديدة منذ بدء الإبادة إلا مرات قليلة، كل ذلك يأتي في سياق سياسة الاحتلال القديمة الجديدة: سياسة خنق القطاع، خنقاً يصل حتى أصوات من نحب!

عندما فقدنا الاتصال

وجدنا أنفسنا نحارب من أجل اتصال آمن وسط شبكة اتصالات تعصف بها الخوارزميات وتعقيداتها وملاحقتها لكلماتنا، لجأت إلى منصة سكايب (Skype) التي تمتلكها مايكروسوفت (Microsoft) لأهاتف أهلي طوال سبعة شهور من الإبادة، وأنشأت لها حساباً مخصصاً لهذه المهمة وحدها، ولكن سريعاً ما خطت المنصة خطى بقية المنصات المنحازة لـ "إسرائيل"، وحذفت حسابات فلسطينيين من مختلف دول العالم كانوا يتواصلون مع أهلهم في غزة. 

العشرات منا استيقظوا ليجدوا بريدهم الإلكتروني الذي رافقهم 15-20 عاماً قد اختفى، ومن دونه لا يستطيعون تسيير حياتهم؛ فكل شيء في الحاضر مرتبط بالبريد: الحسابات البنكية، والوصول إلى التطبيقات، والتعامل مع الشركات والمؤسسات، والتواصل بين الطلبة والأساتذة وغيرها. بعضهم شعر وكأنّ حياته الرقمية أُطفئت بضغطة زر واحد، أما الشركة فبررت اتخاذها هذه القرارات  بحق حسابات ذات "نشاط مخالف لشروط الخدمة" أو "استخدام في نشاط غير مصرح به".

كانت لدى سكايب حزمة اتصالات تتضمن دقائق اتصال غير محدودة يمكن استخدامها للاتصال بالعديد من دول العالم ومنها "إسرائيل"، مقابل ما يقارب 20 دولاراً شهريّاً، وقد وجد الغزيون المغتربون من هذه الحزمة فرصة للبقاء على اتصال دائم مع عائلاتهم خلال الحرب، إلا أن هذه الحملة توقفت فجأة في بداية شهر شباط/ فبراير 2025، أي بعد أقل من أسبوعين من وقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه في كانون الثاني/ يناير الماضي، ما أثار لدى الكثير منا شكوكا بتورط سكايب في مهمة التجسس علينا من خلال حزمة الاتصالات التي وفرتها، والتي توقفت فجأة مع توقف الحرب، وكأن مهمتها انتهت. 

اقرؤوا المزيد: غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً…

طوال الشهور الماضية، لم أكن أشعر بالاطمئنان والراحة خلال اتصالاتي، وكانت لديّ شكوك أن تكون تحت المراقبة أو أن يكون قد تم تسجيلها، لم يمض الكثير، حتى قرأت مخاوفي هذه في تحقيق نشرته صحيفة "الغارديان" الأمريكية في 25 سبتمبر/ أيلول 2025، جاء فيه أن وحدة الاستخبارات الإسرائيلية "8200" استخدمت منصة الحوسبة السحابية (Microsoft Azure) لتخزين وتحليل ملايين المكالمات والرسائل الواردة من فلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية على خوادم ضخمة، وأن هذه البيانات ساعدت في تخطيط ضربات إسرائيلية جوية.

وفي اليوم التالي لنشر التحقيق، أوقفت "مايكروسوفت" عدداً من خدماتها السحابية والذكاء الاصطناعي التي كانت تقدمها لوحدة داخل وزارة الجيش الإسرائيلية.

جاسوس في المكالمة

أمّا أنا فلديّ تجربتي الخاصة التي شعرت فيها أن مكالماتي قد تكون مراقبة ومسجلة، ليس من قبل مايكروسوفت فحسب، بل حتى الاتصالات التي كنت أجريها عن طريق شركات أخرى، مثلاً: كنت أسمع خلال المكالمة أحياناً جزءاً من حديثنا وكأنه جرى تسجيله ويُعاد تشغيله، أو أن ينقطع الاتصال فجأة، وأحياناً أخرى كنت أتلقى اتصالات من أرقام أوروبية عشوائية فور انتهاء الاتصال، تكون قصيرة ولا أتمكن من الرد عليها ومعرفة من خلفها. أما في قطاع غزة، فلم يكن يظهر لعائلتي رقم هاتفي الذي أتصل منه، بل رقم مختلف بمفتاح أمريكي. 

اقرؤوا المزيد: الفقدان الذي لم نعتده في غزة

كنت دائماً أشعر خلال مهاتفتي عائلتي وكأن طرفا ثالثا في الاتصال، فكنت أسمع صوت أزيز خفيف، هذا إلى جانب إعادة توجيه المكالمات، فكثيراً ما كنت أتصل بشخص ما ويرد عليّ شخصٌ آخر من دولة أجنبية مختلفة.

عود إلى البداية، لقد تمكنت من مهاتفة شقيقتي الكبرى - أم الشهيدين الطفلين رشا وأحمد - بعد عدة أيام من المجزرة، والاطمئنان عليها، ولأبارك لها تفوق شقيقتي الصغرى، كانت أول مكالمة بيننا بعد أكثر من شهر من وقف إطلاق النار. 

كانت مكالمة دافئة وحنونة، ولكن قصيرة وسريعة لا تتجاوز خمس دقائق شحذت همتي، وانتشلتني من خوفي وقلقي، هكذا اعتدنا أن تتحول مكالماتنا، إلى حين أن نلتقي قريباً ونستعيد أحاديثنا الطويلة!