ثمة واقع مرعب في زيادة نسب الإجهاض؛ وتراجع معدلات الولادة؛ وخلق ولادة مشوّهة؛ وصولًا لطفولة تعاني من أمراض كارثية؛ نتيجة تداعيات الحرب والصواريخ التي استخدمها الاحتلال؛ والتي باتت تظهر آثارها جليًا على الأجنّة والأطفال معًا في القطاع.
والأرقام القادمة من أقسام الحضانة والعناية المكثفة، وشهادات الأطباء، وملفات وزارة الصحة، كلها تشير إلى أن الحرب امتدت إلى أكثر المراحل هشاشة في حياة الإنسان، من الخلية الأولى في رحم الأم وحتى سنوات الطفولة المبكرة، لتضرب المستقبل قبل الحاضر، والنسل قبل الجسد، والجيل القادم قبل أن يرى النور؛ كهدف رئيسي في بنك أهداف الاحتلال خلال الحرب. في هذا التقرير؛ يستعرض "الترا فلسطين" أبرز ملامح هذا الاستهداف؛ وأهم الأرقام الصادرة عن الجهات الصحية التي ترصد حجم التشوّه الكبير الذي أصاب الأجنّة والطفولة في غزة معًا.
أكّد منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، أن الاحتلال الإسرائيلي شنّ حربًا ممنهجة على الطفل الفلسطيني منذ الساعات الأولى للعدوان، مستهدفًا حياته وصحته ونموه الطبيعي
حضانات مكتظّة
رصد عاهد خلف، طبيب الأطفال في قسم العناية المكثفة في مجمع ناصر الطبي، أوجه الكارثة وتداعياتها التي تهدّد صحة الأمهات الحوامل والأطفال الخدج في قطاع غزة، نتيجة منع الاحتلال دخول الأدوية والمكملات الغذائية الأساسية خلال الأشهر الماضية؛ وتداعيات ذلك في تكدّس العناية المكثفة للأطفال بسبب الحالات الحرجة للخدّج.
وأكد الطبيب خلف لـ"الترا فلسطين"، أن نقص الأدوية المخصّصة لتعزيز صحة الأم والجنين أدى إلى تزايد واضح في حالات التشوّهات الخَلقيّة وارتفاع معدلات الولادات المبكرة. وأوضح أن المستشفيات باتت تسجل ولادات لأطفال في عمر 30 إلى 32 أسبوعًا، بدلًا من المدة الطبيعية للحمل التي تتراوح بين 38 و40 أسبوعًا.
وقال إن هؤلاء الأطفال يُنقلون مباشرة إلى أقسام العناية المكثفة، حيث يحتاجون إلى متابعة طبية دقيقة تمتد من أسبوعين إلى شهر. وأضاف: "كنا نتعامل سابقًا مع عدد محدود من الخدج، أما اليوم فقسم الحضانة ممتلئ لدرجة غير مسبوقة، ونضطر لوضع طفلين وأحيانًا ثلاثة أطفال على جهاز واحد بسبب النقص الحاد في الحاضنات".
وأشار إلى أن منع إسرائيل دخول المكملات الغذائية للأمهات مثل الحديد، وحمض الفوليك، والبروتينات العلاجية أدى إلى ارتفاع ملحوظ في نسب التشوّهات عند الأطفال الخدّج والمولودين حديثًا. وبيّن أن التشوّهات تشمل القفص الصدري، وتشوّهات القلب والأوعية الدموية، والجهاز الهضمي، والعمود الفقري، مما يزيد من احتمالات الوفاة ويثقل الضغط على أقسام العناية المركزة.
وأضاف الطبيب خلف أن تأثير القصف والمواد المتفجرة التي تحتوي على مواد سامة وإشعاعية بدأ يظهر بوضوح على أجساد المواليد، حيث رُصدت حالات عيوب في النخاع الشوكي، ومشكلات في الحجاب الحاجز، وثقوب في القلب. وأكد أن هذه الحالات مرتبطة مباشرة بالمواد التي تسقطها إسرائيل على السكان خلال فترات الحمل، والتي تترك آثارًا خطيرة على صحة الأجنة.
ولفت إلى أن المستشفيات تسجل أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في حالات الإجهاض، إلى جانب الولادات المبكرة والولادات المكتملة التي يكون وزن الطفل فيها أقل بكثير من الطبيعي، بسبب سوء تغذية الأمهات وحرمانهن من المكملات الأساسية. وأضاف أن عددًا متزايدًا من الأطفال يولدون بوزن منخفض رغم اكتمال فترة الحمل، وهو مؤشر خطير على تراجع الصحة الجنينية في غزة.
وأشار خلف إلى أن سوء التغذية الذي يعاني منه القطاع منذ أشهر، وتعرض النساء الحوامل لضغوط الحرب ونقص الغذاء والدواء، كلها عوامل تؤدي إلى ظهور أمراض وتشوّهات كان من النادر تسجيلها بهذه الأعداد سابقًا. وأكد أن أقسام الحضانة والعناية المكثفة تعمل فوق طاقتها ولا تملك الإمكانات اللازمة للتعامل مع هذا الارتفاع الهائل في الحالات.
وختم خلف بالقول إن استمرار منع دخول الأدوية والمكملات الغذائية والحاضنات يعني أن "حياة مئات الأطفال مهددة يوميًا"، محذرًا من أن التشوّهات الخَلقيّة والإجهاضات المتزايدة ليست "ظواهر عابرة"، بل نتائج مباشرة للحرب وللسياسات التي تستهدف صحة الأمهات والأجنة في قطاع غزة.
📌أطفال نازحون غرب مدينة غزة يلهون في الماء هربًا من شدة الحر وارتفاع درجات الحرارة في ظل حرب الإبادة المستمرة.
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) August 23, 2025
📸عبد الكريم السموني-الترا فلسطين pic.twitter.com/rRCtwKVev8
حرب ممنهجة
بدوره، أكّد منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، أن الاحتلال الإسرائيلي شنّ حربًا ممنهجة على الطفل الفلسطيني منذ الساعات الأولى للعدوان، مستهدفًا حياته وصحته ونموه الطبيعي، في إطار ما وصفه بأنه "خطة منظمة لطمس الأجيال وتهديد المستقبل الديموغرافي للشعب الفلسطيني".
وقال البرش لـ"الترا فلسطين"، إن الاحتلال قتل بشكل مباشر أكثر من 20 ألف طفل منذ بدء الحرب، وفق إحصاءات وزارة الصحة، إلى جانب 44 ألف طفل مصاب إصابات خطيرة، مؤكدًا أن هذا الاستهداف الواسع يخرج من نطاق العمليات العسكرية إلى سياسة "إبادة ممنهجة للطفولة".
وأضاف أن الاحتلال لم يكتفِ بقتل الأطفال بالقصف، بل قام منذ الأيام الأولى بمنع دخول المكملات الغذائية الخاصة بالأطفال والحوامل، بما في ذلك الحليب، والكلوفيد، وحمض الفوليك، والحديد، وغيرها من العناصر الأساسية لضمان نمو سليم للجنين والطفل. واعتبر البرش أن هذا المنع "متعمد ومقصود، يهدف لخلق جيل مشوّه النمو، يعاني من تأخر عقلي ومن تقزم ومشكلات صحية خطيرة قد لا تظهر إلا بعد سنوات".
وأشار إلى ظهور مؤشرات خطيرة على الأرض، إذ سجّلت وزارة الصحة ولادة 156 جنينًا مشوّهًا خلقيًا منذ بداية الحرب، معظمهم توفّوا بعد الولادة بسبب التشوّهات الشديدة؛ بينهم أطفال وُلدوا بلا أنف أو بأعضاء غير مكتملة. وأكدّ البرش أن هذه المؤشرات "تكشف بما لا يدع مجالًا للشك أن الاحتلال استهدف الأرحام كما استهدف الأطفال الأحياء".
كما أكد حدوث ارتفاع كبير في حالات الإجهاض مقابل انخفاض حاد في عدد المواليد بنسبة 40% مقارنة بالعام السابق؛ إذ تراجعت أعداد الولادات الشهرية من 26 ألفًا إلى 17 ألف حالة فقط. ولفت إلى أن انخفاض الوزن عند الولادة أصبح ظاهرة واسعة نتيجة سوء تغذية الأمهات ومنع دخول المكملات الغذائية الأساسية.
وفي سياق الجريمة الممنهجة، كشف البرش أن الاحتلال استهدف مباشرة مراكز التخصيب، وقصف مركز "البسمة" ما أدى إلى إحراق أنابيب النيتروجين وتدمير نحو 4 آلاف جنين مخصّب بالكامل، وهي جريمة أثبتتها تقارير الأمم المتحدة ولجان تقصي الحقائق التي أكدت أن الأجنة كانت محفوظة داخل المختبر وفق الإجراءات العلمية المتبعة.
وشدّد البرش على أن هذه المعطيات تُظهر وجود "خطة مسبقة" طالما لوّحت بها مراكز أبحاث إسرائيلية مثل مؤتمر هرتسيليا، والتي حذّرت من "الخطر الديموغرافي الفلسطيني" ودعت إلى ضرورة مواجهته. وقال: "الحرب كانت الفرصة المثالية لتطبيق هذه المخططات عبر استهداف مباشر لنسل الفلسطينيين وصحتهم وقدرتهم على الإنجاب السليم". وختم البرش بأن وزارة الصحة توثّق هذه الجرائم بدقة، وستقدّم ملفاتها للجهات الدولية المختصة باعتبارها جرائم إبادة جماعية تستهدف الإنسان الفلسطيني منذ أن يكون جنينًا وحتى مراحل طفولته ونموّه.
حرب الإبادة أفقدتهم أبسط مقوّمات الحياة.. أطفالٌ من بلدة المغراقة المدمرة، يجمعون الحطب لاستخدامه في إشعال النار لطهي الطعام pic.twitter.com/iJmH78ImbP
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) October 15, 2025
طفولة مشوّهة
لم تقتصر عملية التشويه على الطفل الفلسطيني في مرحلة نموه فحسب؛ بل لاحقته أيضًا في مراحله العمرية الأخرى؛ وفق ما يرصده رئيس مستشفى النصر والرنتيسي للأطفال الطبيب جميل سليمان؛ الذي قال إن الأطفال يتعرضون لأبشع عملية استهداف تتعمد صناعة جيل مشوّه في القطاع.
وأكد سليمان لـ"الترا فلسطين" أن الوضع الصحي للأطفال في قطاع غزة وصل إلى مرحلة "الانهيار الكامل"، نتيجة الحصار، والتجويع، وتدمير البنية الصحية، مشيرًا إلى أن أكثر من 600 ألف طفل في غزة والشمال وحدهما أصبحوا بلا رعاية صحية فعلية بعد خروج معظم المستشفيات والمستوصفات عن الخدمة.
وأوضح سليمان أن المستشفى يستقبل يوميًا أطفالًا يعانون من أمراض صعبة ومعقّدة، معظمها لم تكن شائعة بهذه الكثافة قبل الحرب. وأشار إلى أن أبرز الحالات تتعلق بأعراض حادة في الجهاز التنفسي، والتهابات خطيرة، وسوء تغذية متقدّم، بالإضافة إلى نقص شديد في المناعة يظهر عبر التهابات جلدية منتشرة بين الأطفال، إلى جانب أمراض الجهاز الهضمي المرتبطة بالتلوّث ونقص النظافة.
وأشار إلى أن أسباب تفاقم هذه الأمراض تعود إلى منع دخول الأدوية، وتدمير المختبرات والأجهزة الأساسية، وعلى رأسها أجهزة التصوير والرنين التي دُمرت بالكامل، ما يجعل تشخيص الحالات الدقيقة شبه مستحيل. وأضاف: "نحن نتعامل مع أمراض معقدة دون فحوصات، ودون مختبرات، ودون أجهزة، ودون أدوية كافية… إنها معركة يومية نخوضها بوسائل بدائية".
وبين سليمان أن سوء التغذية أصبح "علامة واضحة" على أجساد الأطفال، إذ يعاني آلاف منهم من النحافة الشديدة، ونقص الوزن، وضعف العضلات، وتكرار الالتهابات بسبب انهيار جهاز المناعة. وبيّن أن هذه الظاهرة تتصاعد في غزة والجنوب والشمال على حد سواء، نتيجة انعدام الغذاء المناسب، وخاصة البروتينات والمكملات الغذائية الضرورية لنمو الطفل. وأوضح أن المخاطر لا تقتصر على الأطفال المرضى فقط، بل تمتد إلى الأطفال غير المصابين بأمراض جسدية، الذين يعانون أشكالًا خطيرة من الضغط النفسي.
وقال إن المستشفيات تستقبل يوميًا أطفالًا يعانون من التبول اللاإرادي، ونوبات الهلع، والاستيقاظ الليلي المفاجئ، واضطرابات سلوكية ناتجة عن مشاهد القصف وفقدان الأهل. ونبه إلى أنّ الكوادر الطبية باتت عاجزة عن تقديم العلاج المناسب، خصوصًا في ظل عدم توفر أدوية الأعصاب، ومضادات الالتهاب، ومثبتات المناعة.
وفي سياق متصل، حذّر سليمان من آثار التجويع التي تعرّض لها القطاع لأشهر طويلة، والتي ستبقى محفورة في أجساد الأطفال لسنوات. وأكد أن نقص الغذاء أدى إلى توقف النمو الطولي، وتأخر التطور العقلي، وضعف العظام، والأنيميا الحادة، إلى جانب ارتفاع معدلات فقر الدم بين الأطفال والحوامل، ما يشكل خطرًا على الأجيال المقبلة.
وشدّد على أن الأطفال في غزة اليوم يواجهون "كارثة صحية مركّبة" تجمع بين المرض، والجوع، والصدمات النفسية، وانعدام الرعاية، مؤكدًا أن هذا الوضع لا يمكن اعتباره مجرد نتيجة حرب، بل "عملية منهجية لضرب مستقبل الأطفال الفلسطينيين وحقهم في الحياة والصحة". وختم بالقول إن الطواقم الطبية تعمل بأقصى قدرتها، لكن دون دعم دولي عاجل "سيستمر الأطفال في دفع أثمان لا يحتملها البشر".