تتشابك حكايات الطلبة في غزة مثل خيوط مشدودة بين أمسٍ كان واعدًا ويومٍ محاصرٍ بالضيق. وفي المنتصف تقف الحرب كقاطع طريقٍ يبدد فرصهم ويعيد رسم مسارات حياتهم بلا استئذان. من بين هذه الحكايات يطلّ الطالب أحمد الكحلوت، محاولًا أن يجمع ما تبقى من حلمه وسط ركام الواقع.
مصادر جامعية: الأقساط الجامعية بالتسعيرة الحالية لا تغطي سوى جزء محدود من التكاليف التشغيلية، إذ إن عددًا من الجامعات كانت تعاني من عجز مالي حتى قبل الحرب
تغطي ظلال الحرب تفاصيل حياة أحمد منذ اللحظة التي أنهى فيها الثانوية العامة بمعدل 86 في الفرع العلمي. حينها كان يرى نفسه على مقاعد كلية الهندسة، يصنع لنفسه طريقًا واضحًا نحو المستقبل. لكنه يروي أن عامين من النزوح المتكرر واستنزاف مدخرات العائلة قلب المعادلة.
فقد والد أحمد عمله، والدخل تبخر، والرسوم الجامعية تحولت إلى عبء لا يمكن تحمله، ورغم أن الجامعة توفر للطلبة الجدد منحةً للفصل الأول، إلا أن أربع أو خمس سنوات دراسية تتطلب قدرات مادية لم تعد متوفرة. هكذا، فجأة، صار الحلم مرتبطًا بسؤال قاسٍ: من أين سنأتي بتكاليف السنوات القادمة؟
ومثل كثيرين ممن طحنتهم الحرب بين الحاجة والاختيار، اضطر أحمد إلى تغيير المسار، فاكتفى بشهادة الدبلوم بدل البكالوريوس. يقول: "لولا الحرب، كنت الآن في سنتي الثانية وفي التخصص الذي أحلم به. لكن قدر الله وما شاء فعل."
وبين الهندسة التي كان يحلم بها والدبلوم الذي يدرسه اليوم، تختصر تجربة أحمد خريطة الخسارات التي فرضتها الحرب على جيل كامل يحاول أن يحافظ على مستقبله ولو بخطوات قصيرة فوق أرض تتشقق تحت قدميه.
هذا المسار المفتوح على الأسئلة يعكس حجم التحوّل الذي أصاب التعليم العالي في القطاع، ويجعل من كل قصة فردية جزءًا من لوحة أكبر تزداد قتامة مع استمرار الحرب.
أما الطالب يوسف الحلو فبدأت معاناته في عامه الثالث بقسم اللغة العربية، والسبب ذاته: العجز عن دفع الرسوم الجامعية. يفكر هو وكثير من زملائه بتأجيل الفصل أو التوقف المؤقت عن الدراسة، لا رغبة في الابتعاد عن الجامعة، بل لأن "القدرة على الدفع لم تعد موجودة أصلاً" كما يقول.
ويوضح يوسف أن المسألة تجاوزت طلب المنح أو انتظار التسهيلات، فحتى لو أكمل الطالب تعليمه، فإن الشهادة قد تبقى محتجزة لدى الجامعة بسبب تراكم الرسوم الجامعية خلال عامي الحرب.
ويصف يوسف كيف كانت الجامعة قبل الحرب بوابة للمستقبل وفضاءً للأمل وفرص العمل، بينما تحولت اليوم إلى عبء مالي ثقيل على الطلبة وعائلاتهم.
ويضيف: "في محاولة للنجاة، أصبح كثيرون يخفّضون عدد الساعات المسجلة في كل فصل إلى الحد الأدنى المسموح، فقط لتقليل الرسوم، وكأنهم يقطعون طريقهم العلمي على مراحل قصيرة خوفًا من العجز في منتصف الطريق".
أزمة تمويل
وتواجه الجامعات في غزة أزمة مالية متصاعدة، إذ تعتمد معظمها على رسوم الطلبة كمصدر دخل وحيد في ظل غياب أي تمويل ثابت. وتقول مصادر جامعية إن الرسوم الجامعية بالتسعيرة الحالية لا تغطي سوى جزء محدود من التكاليف التشغيلية، مشيرة إلى أن عددًا من الجامعات كانت تعاني من عجز مالي حتى قبل الحرب.
وأعلنت إدارات الجامعات أنها قدمت منحًا واسعة للطلبة الجدد، شملت إعفاءهم من رسوم التسجيل ومنحة كاملة للفصل الأول، بهدف ضمان استمرارية الالتحاق. أما الطلبة القدامى، فأعلنت الجامعات تقسيط الرسوم وتخفيضها إلى النصف، مع تخفيض إضافي للحالات الاجتماعية.
ويؤكد المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أن أزمة الرسوم الجامعية في غزة ليست وليدة الحرب، فقد كانت الأُسر تعاني أساسًا من صعوبة توفير الرسوم نتيجة ارتفاع البطالة وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، غير أن حرب الإبادة ضاعفت من حجم الأزمة، بعدما تغيّرت أولويات الناس بشكل كامل، وأصبح تأمين الطعام والماء والمسكن يتقدم على أي احتياجات أخرى، بما في ذلك التعليم.
وأشار أبو قمر، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أن نسبة البطالة ارتفعت خلال الحرب لتصل إلى 83%، أي أن 83 عائلة من كل 100 لم تعد قادرة على دفع الرسوم الجامعية، وهو ما زاد من الضغوط على الطلبة والجامعات على حد سواء. فضلاً عن أن معدل الفقر ارتفع إلى 93%، وهو ما يجعل دفع الرسوم الجامعية "شبه مستحيل" في هذه الظروف.
وأضاف أبو قمر أن الجامعات نفسها كانت تواجه أزمات مالية حتى قبل الحرب، من بينها صعوبة توفير المنح الداخلية والخارجية، إضافة إلى ضعف صندوق إقراض الطالب، مشيرًا إلى أن هذه المبادرات كانت تغطي شريحة محدودة فقط، لكنها الآن "اختفت كليًا".
وبين أن الجامعات اضطرت إلى إعلان الفصل الدراسي الأول مجانيًا لجميع الطلبة، غير أن التحدي الحقيقي سيكون في الفصول القادمة، متسائلًا: "كيف ستُدفع الرسوم؟".
أحمد أبو قمر: على الجامعات إعادة النظر في مصادر دخلها، وأن تبحث عن حلول وتمويلات جديدة خارج الصندوق
وشدد على أن الجامعات بحاجة إلى دعم كبير من المنح الخارجية ووزارة التربية والتعليم، لأن المنح الحالية "مجرد ترقيع" ولا تغطي الاحتياجات الفعلية.
وذكَّر أبو قمر بأن بعض الجامعات أعلنت منذ الأيام الأولى للحرب عجزها عن دفع رواتب الأكاديميين والموظفين، وهكذا انضم كثيرٌ منهم إلى صفوف العاطلين عن العمل، مما فاقم الأزمة داخل المؤسسات التعليمية نفسها.
ورأى أن على الجامعات إعادة النظر في مصادر دخلها، وأن تبحث عن حلول وتمويلات جديدة خارج الصندوق، لأن استمرار الأزمة سيؤثر على مستقبل التعليم العالي في غزة بشكل مباشر.