Bisan

نساء غزة.. حين تتحوّل الزراعة إلى فعل صمودٍ

Soruce تقارير
نساء غزة.. حين تتحوّل الزراعة إلى فعل صمودٍ
سفيان نايف الشوربجي

سفيان نايف الشوربجي

صحفي فلسطيني مستقل من قطاع غزة، مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي، حاصل على درجة...

في قطاع غزة، لم تعد الحقول بعد الحرب كما كانت؛ فقد تحوّلت إلى مساحات تُكتب فيها حكايات نساءٍ نفضن غبار الركام، ووقفن في الصفوف الأولى لحماية ما تبقّى من الأرض والمعيشة. فمع فقدان آلاف الأسر لمعيلها بين شهيد وجريح ومفقود، وجدت كثيرٌ من النساء أنفسهن أمام مسؤولية مضاعفة دفعت بهنّ إلى دخول القطاع الزراعي.

فجأة، تحوّلت نساءٌ لم يسبق لهن أن حرثن أرضًا أو رعين شتلة إلى حارسات للأرض والذاكرة، يستعدن دورهنّ الطبيعي في حماية معيشتهم وصون ما تبقّى من حقول طالها القصف. لم تكن الزراعة بالنسبة إليهنّ مجرّد مصدر رزق، بل فعل مقاومة يوميّة يثبتن به أن الحياة قادرة على النهوض من تحت الركام، وأن الأرض التي ورثنها عن أزواجهن ليست مجرد تراب، بل امتدادٌ لما تركوه من معنى ووجود.

يؤكد خالد أبو زر، رئيس الاتحاد العام للفلاحين في محافظة خانيونس، لـ"الترا فلسطين"، أن الحرب الأخيرة خلّفت واقعًا جديدًا على النساء العاملات في القطاع الزراعي. فقد ارتفع عدد المنخرطات في هذا المجال بشكل كبير

ووفق بيانات سابقة صادرة عن المكتب الحكومي بغزة، فإن 13 ألفًا و901 سيدة فقدن أزواجهن خلال حرب الإبادة الجماعية. وتشير تقديرات مؤسسة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن عدد الأسر التي تعيلها نساء في غزة بلغ أكثر من 16 ألف أسرة، مما يعني أن ما لا يقل عن 16 ألف امرأة أصبحن معيلات لأسرهن. فيما تشير جمعيات زراعية محلية إلى أن أكثر من 38% من الأسر الزراعية فقدت معيلها الأساسي، وأن نحو 1200 امرأة اندمجن في الأعمال الزراعية لأول مرة بعد الحرب.

وفي هذا التقرير ينقل "الترا فلسطين" شهادات لثلاث مزارعات من مناطق مختلفة في القطاع، وجدن أنفسهن في مواجهة مسؤوليات ثقيلة، فحوّلن الألم إلى قدرة على الاستمرار، وكتبن فصولًا جديدة من صمود المرأة الغزّية.

الوفاء واستعادة حلم شهيد

لم تكن وردة الأسطل (34 عامًا) تتخيّل يومًا أنها ستحمل المِنجَل بيدها، أو أنها ستقف في الأرض تحت الشمس الحارقة كما كان يفعل زوجها الراحل. كانت حياتها قبل الحرب تدور بين تربية الأطفال ومتابعة دراستهم، بينما يتكفّل الزوج بكل ما يتعلّق بالأرض والزراعة. لكنّ الحرب غيّرت كل شيء في لحظة واحدة؛ حين عاد جسده شهيدًا، وعادت معها مسؤوليات الحياة كلها لتستقر فوق كتفيها.

كان زوجها الشهيد يسعى لإطلاق مشروع زراعي يؤمّن به مستقبل أسرته، لكنّ نيران الحرب باغتته في الخامس والعشرين من آب/أغسطس 2025 قبل أن يحقق حلمه. ورغم الفقد والألم، قررت وردة أن تواصل الدرب الذي بدأه، بعدما ورد اسمه ضمن أحد المشاريع الزراعية التابعة لإحدى الجمعيات. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأرض التي تركها إرثًا لزوجها، وزادًا في مسيرة عنوانها الإصرار والوفاء.

تبدأ وردة يومها مع بزوغ الفجر، في الأرض التي تبلغ مساحتها دونمًا واحدًا فقط في مواصي مدينة خان يونس جنوب القطاع، تتفقد المحصول وتروي الأرض بيديها، ثم تعود لتقوم بدور الأم والأب لأطفالها الثلاثة؛ أكبرهم في الحادية عشرة، وأصغرهم رضيعة عمرها شهران.

تروي وردة قصتها قائلة لـ"الترا فلسطين": "كانت الأرض مزروعة بالقرع والزيتون، وزوجي هو من كان يعتني بها. بعد استشهاده، قررت أن أزرع الملفوف بنفسي. لم أكن أعمل في الزراعة من قبل، لكنني تعلّمت بالتجربة وبمساعدة إخوتي وأصهاري النازحين إلى المواصي".

وتضيف: "بعد استشهاد زوجي، شعرت أن الأرض أصبحت مسؤوليتي مثل أطفالي… إن تركتُها تموت، سيموت جزء من اسمه معنا". وتتابع: "كنت أستيقظ وأنا خائفة… هل سأفسد الأرض؟ هل سأضيّع تعب زوجي؟ لكنني قلت لنفسي: إن لم أعمل، من سيطعم الأطفال؟".

ورغم إصرارها، لا تخفي وردة حجم الصعوبات: "الأدوية الزراعية غير متوفرة، والمعدات الزراعية غالية جدًا، والكهرباء مقطوعة منذ عامين. وهذا يصعّب ريّ المحاصيل التي تحتاج إلى مياه مستمرة، بتكاليف إضافية".

وتروي موقفًا صعبًا: "تعطّل أحد آبار الري الذي نعتمد عليه، واضطررت لشراء صهاريج مياه بكلفة مضاعفة لإنقاذ المحصول من التلف". ورغم كل ذلك، لم تفقد وردة الأمل. فقد حصلت على تدريبات من مؤسسات زراعية حول الزراعة الحديثة، ما مكّنها من مواجهة التحديات بثقة أكبر. وتطمح إلى تطوير عملها والسير على خطى زوجها الشهيد الذي أحب الأرض وأتقن زراعتها. وتختم: "سأواصل العمل في الزراعة؛ لأنها أصبحت مصدر رزقي ورزق أطفالي، وسأكمل الطريق الذي بدأه زوجي وفداه بروحه".

أمل بعد الفقد

على مقربة من أرض وردة، تقف مروة شراب (26 عامًا) في حقلها المزروع بالكوسا، تروي الأرض وتراقب المحصول بينما تحمل طفلها القادم في أحشائها. فقدت زوجها عبد الرحمن شراب في 27 آب/أغسطس 2025، وكان يعمل في زراعة أرض مساحتها دونمان مزروعة باللوبيا آنذاك.

تقول مروة لـ"الترا فلسطين": "لم أكن أتخيل أنني سأزرع بيدي، لكن بعد استشهاده أدركت أن الأرض هي ما تبقّى لنا. بدأت العمل بخطوات مرتبكة، وتعلّمت من إخوتي ومن نصائح كبار المزارعين حتى صار الحقل جزءًا من يومي".

وتضيف بابتسامة متعبة: "أنا الآن حامل في الشهر الثاني، والعمل في الأرض مرهق جدًا، لكنه يمنحني شعورًا بالانتصار على الحزن والخوف". 

تبدأ يومها مبكرًا في تفقد المحصول، وتعمل جنبًا إلى جنب مع شقيقها الأكبر الذي يقدم لها المشورة. ورغم التحديات، من انقطاع الكهرباء وشح المياه لم تتراجع: "اضطررنا لشراء أكواب مياه بأسعار مرتفعة… فلا يمكنني ترك المحصول يذبل. وتمكنا مؤخرًا من إعادة توصيل أحد خطوط المياه".

تستذكر مروة: "في أحد الأيام، تعطّل ماتور الري لدى أحد الجيران في عزّ الصيف، وكاد المحصول يذبل. نقلنا الماء في دلاء من بئر قريب. قلت في نفسي: لا بد أن نحافظ على الأرض، فهي ما تبقّى لنا".

التحقت مروة بدورات تدريبية حول الري الحديث ومكافحة الآفات بوسائل طبيعية، ما منحها خبرة وثقة. وتقول بابتسامة يغلبها الإصرار:
"الزراعة أصبحت رسالتي… أزرع الأمل لأجلي ولأجل طفلٍ لم يولد بعد".

البداية من الصفر

على بُعد كيلومترات قليلة، تقف صابرين يونس (45 عامًا) وسط مزرعتها. بعد إصابة زوجها في قصف إسرائيلي قبل عام ونصف وعجزه عن العمل، انتقلت من أم متفرغة لتربية أبنائها الخمسة إلى مزارعة تُعيد الحياة لأرضٍ أصابها الدمار.

تقول صابرين: "بدأت من الصفر… أخطأتُ كثيرًا وأصلحتُ أخطائي، لكنني تعلمت من التجربة ومن دعم كبار المزارعين كيف أحوّل التراب إلى حياة". وتضيف: "في البداية لم أستطع حتى حمل الجارفة الصغيرة لتسوية الأرض التي تضررت جراء قصف قريب. كنت منهكة من أعباء الحياة، لكن فكرة أن أبنائي ينتظرون مني شيئًا منحتني قوة غير طبيعية".

وتتابع: "كنت أخاف الاقتراب من التربة… لم أعرف ماذا أزرع. لكن حين نظرت إلى عيون أولادي الخمسة، فهمت أن عليّ أن أكون الأم والأب معًا". وتضحك قائلة: "لم نعد نشتري البقدونس والملوخية والطماطم… صرنا نزرعها، نزرع حياتنا من جديد".

يشاركها أبناؤها هذا الحلم: محمود، طالب الصف الحادي عشر، يسقي المزروعات بعد المدرسة، بينما تتولى ابنتها الجامعية التسويق عبر الإنترنت. وتقول صابرين: "حين أُصيب زوجي، شعرت أن الأرض تُنادي عليّ… الحرب أخذت الكثير، لكنها منحتني قوة لم أعرفها في نفسي".

الزراعة ملاذ النساء بعد الحرب

يؤكد خالد أبو زر، رئيس الاتحاد العام للفلاحين في محافظة خانيونس، أن الحرب الأخيرة خلّفت واقعًا جديدًا على النساء العاملات في القطاع الزراعي. فقد ارتفع عدد المنخرطات في هذا المجال بشكل كبير.

ويقول لـ"الترا فلسطين": "عملنا خلال تلك الفترة على صقل مهارات النساء من خلال مشاريع نسوية لدمجهن وتعزيز دورهن الاقتصادي. لكن بعد الحرب، تضاعفت الأعداد بشكل كبير مع غياب الإحصاءات الدقيقة بسبب الدمار الواسع".

ويشير إلى إعداد إحصاءات جديدة وبرامج دعم تستهدف النساء، موضحًا أن كثيرًا منهن فقدن أزواجهن بالاستشهاد أو الأسر أو العجز، وأبدين استعدادًا كبيرًا للانخراط في الزراعة ومشاريع الدواجن والمشاريع الصغيرة.

يقول أبو زر إن العقبات تبدأ من تسوية الأراضي وإزالة الركام والمخلفات، مرورًا بتوفير المياه والطاقة، وصولًا إلى الحاجة لتمويل المشاريع الزراعية، فضلًا عن ارتفاع أسعار السماد والمبيدات وشح المواد الزراعية الأساسية.

ويضيف أن الاتحاد نفّذ قبل الحرب العديد من الدورات التدريبية للنساء المهمشات والأرامل، ويعمل اليوم على خطط جديدة تواكب احتياجات المرحلة المقبلة.

ويشدد على أهمية تعزيز حضور النساء في القطاع الزراعي عبر برامج توعية وورش عمل تركز على الزراعة المستدامة، ونوعية المحاصيل المناسبة، وأساليب الإدارة الحديثة.