Bisan

الزيت الذي لم يُعصر.. حرب الإبادة تسرق موسم غزة

Soruce تقارير
الزيت الذي لم يُعصر.. حرب الإبادة تسرق موسم غزة
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

في هذا الوقت من كل عام، كانت غزة تعج بالحركة في معاصر الزيتون الحديثة، حيث تختلط أصوات الآلات بضحكات العمال الذين يغسلون الثمار ويطحنونها لتتحول إلى عجينة تعبق برائحة حقول الزيتون المباركة، لينساب الزيت فيتلألأ في مشهد يفيض بالحياة والبركة. كان الغزيون يشهدون ولادة كنزهم الأخضر بعد عام من الكد والعطاء.

لكن هذا المشهد الجميل دمرته آلة الحرب الإسرائيلية كما دمرت باقي مناحي الحياة في غزة. تحوّلت المعاصر إلى أكوام من الركام، انصهرت الآلات واختلطت رائحة الزيت برائحة الدخان والبارود، في مكان كان يُنتج الحياة. المعصرة أصبحت خرابًا.

بعد الحرب على غزة تبقّى فقط 4 آلاف دونم من الزيتون بعد أن تم تجريف 90% من الأراضي المزروعة

ذكريات تحت الركام

تحت شمس خريفية باهتة، وقف الحاج سالم النجار (70 عامًا) وسط أنقاض معصرته في بلدة غزة القديمة، حيث لم يبقَ من المكان سوى بقايا حديد ملتوي وخراب. مرّر يده المرتجفة على جدار متصدع ظل واقفًا وكأنه يودّع صديقًا قديمًا، وقال: "كانت هذه الآلات تغني للأرض… اليوم تبكيها".

يحكي بصوتٍ متهدج: "هنا كنت أبدأ صباحي قبل الفجر، وكان العمال يعملون كخلية نحل في المعصرة، ويستقبلون رؤية الزيت بعد عصره في الآلات كأنه نهر أخضر ينساب من الجنة". ثم رفع قطعة معدنية سوداء بيده، وأضاف: "هذه كانت جزءًا من الماكينة الإيطالية الجديدة التي اشتريناها قبل ثلاث سنوات، كنا نفخر بها، كانت تعمل ليل نهار وتنتج أجود أنواع الزيت. الآن، لا شيء سوى الدمار".

وأشار النجار إلى الركام من حوله قائلًا: "هذه المعصرة عمرها أكثر من أربعين عامًا، ورثتها عن والدي الذي علّمني حب الأرض والزيتون، وكانت مصدر رزق لنا أنا وأشقائي الخمسة ومعنا 10 عمال". وتابع بصوت خافت: "موسم الزيتون بالنسبة لنا لم يكن عملًا فقط، كان عيدًا. الناس تأتي بالثمار، والأطفال ينتظرون أول قطرة زيت تخرج من المكبس. كانت لحظة فرح لا توصف".

اقرأ/ي: عادات ومعتقدات.. موسم قطف الزيتون في التراث الشعبي الفلسطيني

"أبو المواسم".. موسم قطف الزيتون في التراث الشعبي الفلسطيني

توقف قليلًا، تنهد، ثم قال: "ليلة 15 أيار/مايو 2024، لم أكن بعيدًا عن المكان، سمعت الانفجار كأنه زلزال. ركضت إلى هنا، لكن الصواريخ كانت تسقط في كل اتجاه. عدت للمنزل ولم أذق طعامًا لأني علمت أن الاحتلال دمر المعصرة. خرجت في ساعات الفجر الأولى، ولم أجد إلا الركام. الماكينات، الخزانات، صور أولادي المعلقة على الجدار… كلها اختفت. الذكريات، راحة الزيتون والزيت، لم أشتم سوى رائحة البارود ولم أشاهد سوى دمار".

أوضح النجار أن خسارته المادية تقدّر بأكثر من 500 ألف دولار، لكنه أشار إلى أن ما يؤلمه أكثر هو فقدان إرث عائلي وحكاية عمر طويل. وقال وهو يلمس حفنة من التراب قرب قدميه: "المال يمكن تعويضه، لكن كيف أستعيد أربعين عامًا من الذكريات؟ هذه الأرض شهدت تعبنا وعرقنا، وكانت جزءًا منّا".

ورغم كل الدمار، ما زال الأمل يسكن عينيه، فقال بابتسامة صغيرة وسط الغبار: "لن أترك هذه الأرض، سنعيد بناء المعصرة من جديد، وسنزرع الزيتون مرة أخرى. الاحتلال يدمّر الحجر، لكنه لا يستطيع أن يقتل الجذور." ثم رفع نظره نحو السماء وختم حديثه، قائلًا: "شجرة الزيتون تعيش مئات السنين، وأنا مؤمن أن الزيت سيعود يسيل من جديد، لأننا نحن من نسل هذه الشجرة المباركة".

الكنز الأخضر بلا أهازيج

يبدأ موسم قطف الزيتون في فلسطين عادةً في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر، مع نسمات الخريف الأولى، ويستمر حتى نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وقد يمتد في بعض المناطق الجبلية إلى منتصف كانون الأول/ديسمبر، حسب نضوج الثمار واختلاف المناخ بين الشمال والجنوب.

يُعتبر موسم جني الزيتون وعصره خلال المعاصر بمثابة عرس فلسطيني جماعي شعبي، تملؤه الأغاني والأهازيج التي توارثها الفلسطينيون عبر الأجيال، تعبيرًا عن الفرح والارتباط بالأرض. ومن أشهر هذه الأهازيج: "عالدار دارك يا زيتونة، يا مباركة وميمونة… الزيت يا دارنا، رزقٌ من ربّنا… زيت الزيتون يا بركة، يا نعمة من رب السما".

أخفَت الحرب هذه الطقوس كما أخفت الموسم. وفي جنوب غزة، وتحديدًا مدينة رفح، أكثر مناطق غزة المنكوبة، كان الحاج فتحي قشطة (69 عامًا) يتحسر على معصرته التي كانت يومًا تعج بالحياة.

منذ عام 1991، كانت المعصرة قلبًا نابضًا للزيتون في الجنوب، ورمزًا لتراث متجذر في ذاكرة أهل رفح. عمل فيها فتحي بيديه، ثم التحق به أولاده الثمانية، محافظين معًا على مهنة ورثوها حبًا وعطاءً. كانت المعصرة بالنسبة لهم أكثر من مصدر رزق؛ كانت عرسًا فلسطينيًا سنويًا ينتظره الجميع بشغف.

في كل موسم، كانوا يعصرون نحو ألفي طن من الزيتون، يستخرجون منها زيتًا نقيًا بنسبة 16%، يشهد على تعبهم ووفائهم للأرض. لكن آلة الحرب لم ترحم هذا الإرث؛ دمّرت المعصرة بالكامل، وضاعت معها أحلام عائلة كاملة ومصدر رزقها الوحيد. قُدّرت خسارة فتحي بنحو 450 ألف دولار، لكن خسارته الحقيقية كانت أكبر من المال، كانت خسارة ذاكرة، وتاريخ، وعرق جيل عاش ليبقي شجرة الزيتون حيّة رغم كل شيء.

من الاكتفاء إلى الانهيار

في ذات السياق، أكد محمد عودة، المتحدث باسم وزارة الزراعة في غزة، لـ"الترا فلسطين"، أن موسم الزيتون يشكل المحصول الاستراتيجي الأول على مستوى الوطن، موضحًا أنّ المزارع بنى هذا القطاع خطوةً بخطوة على مدار سنوات، حتى استطاع قطاع غزة تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذا المحصول بعد جهود تطوير مستمرة. وأشار إلى أن هذا القطاع "عاد إلى الصفر" بعد التدمير الواسع جراء العدوان الإسرائيلي.

وأوضح عودة أنّ قبل الحرب، كانت هناك 180 ألف دونم مزروعة بالزيتون في غزة، منها 85 ألف دونم مزروعة بأشجار مثمرة. وكان موسم الزيتون يحتل نحو 50 ألف دونم، وينتج قطاع غزة سنويًا نحو 40 ألف طن من الزيتون، منها 35 ألف طن تُرسل إلى المعاصر البالغ عددها 40 معصرة، ونحو 5 آلاف طن لمصانع التخليل البالغ عددها 24 مصنعًا، إضافةً إلى كميات أخرى للتخليل المنزلي.

وأشار إلى أنّ الإنتاج السنوي من 35 ألف طن زيتون كان ينتج نحو 5 آلاف طن من زيت الزيتون، وهو ما كان يحقق الاكتفاء الذاتي في القطاع، مع تصدير نحو 200 طن من الزيت إلى الدول المحيطة.

لكن الوضع بعد الحرب تغيّر كليًا، إذ تبقّى فقط 4 آلاف دونم من الزيتون بعد أن تم تجريف 90% من الأراضي المزروعة. وأوضح أن إجمالي الإنتاج لم يتجاوز 3 آلاف طن، منها 2 ألف طن ذهبت إلى المعاصر، ولم يتبقَّ سوى 6 معاصر تعمل، أنتجت نحو 400 طن من الزيت، بينما ذهبت 1,000 طن للتخليل في 3 مصانع فقط من أصل 14 مصنعًا. وأكد أنّ نسبة العجز في هذا الموسم وصلت إلى 92%، وما تم إنتاجه لا يغطي سوى 8% من حجم الاحتياج الفعلي.

وتحدث عودة عن الارتفاع الكبير في الأسعار، موضحًا أنّ سعر كيلو الزيتون قبل الحرب كان 5 شيكل، واليوم تجاوز 30 شيكل، فيما كانت صفيحة الزيت تُباع قبل الحرب بـ 400 إلى 500 شيكل (نحو 150 دولارًا أمريكيًا)، ووصلت خلال الحرب إلى 1,500 شيكل، أي أكثر من 500 دولار. وأكد أن قلة المعاصر، ونقص الوقود اللازم لتشغيلها، والعجز بين العرض والطلب، كلها شكّلت تحديات كبيرة في هذا الموسم.