Bisan

مخلفات الحرب في غزة.. الموت يختبئ تحت الركام

Soruce تقارير
مخلفات الحرب في غزة.. الموت يختبئ تحت الركام
محمد المقيد

محمد المقيد

صحفي من غزة

"تحول قطاع غزة إلى حقل ألغام مروّع، يشبه المدن البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية". بهذه الكلمات لخّص خبير إزالة الذخائر البريطاني نيك أور ما آل إليه قطاع غزة بعد عامين من الحرب. فملايين الأطنان من الركام لا تعطل الإعمار وعودة الحياة فحسب، بل تهدد حياة كل من بقوا في القطاع بما تخفيه تحتها من ألغام وذخائر غير منفجرة.

 واصف عريقات: قطاع غزة بات من أكثر مناطق العالم تلوثًا بالمتفجرات، وبقاء هذه الذخائر يعني استمرار الحرب بأشكالٍ أخرى

فمع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وبدء عودة النازحين إلى مناطق سكنهم، تزايدت حوادث انفجار الذخائر التي خلّفها الاحتلال في مناطق متفرقة من قطاع غزة، لتُسجّل إصاباتٌ خطيرةٌ بين المدنيين، معظمها بين الأطفال. فقد فقد الطفل أحمد الحسنات ذراعه إثر انفجار جسمٍ معدني التقطه قرب خيمته في حي الشيخ رضوان، كما فقد الطفل سامر بهلول عينه إثر انفجار جسمٍ كان يحاول فتحه في تلّ الهوا جنوب غزة.

خطر الحرب الذي لا ينتهي

يؤكد الخبير العسكري واصف عريقات أن الذخائر غير المنفجرة المنتشرة في قطاع غزة تشكّل أحد أخطر التهديدات التي تواجه المدنيين وفرق الإنقاذ، موضحًا أن كثيرًا من هذه الذخائر يظل قابلًا للانفجار عند أي حركة للركام أو لمسٍ للأجسام المعدنية بسبب طبيعة تركيبتها شديدة الحساسية، ما يجعلها خطرًا يهدد حياة السكان وفرق الدفاع المدني التي تعمل بإمكانات محدودة للغاية.

وبيّن عريقات في حديثٍ لـ"الترا فلسطين" أن عدم انفجار بعض الذخائر يعود غالبًا إلى خللٍ في الرأس المتفجر أو في الصمّام الذي يُفعَّل بالصدمة، أو إلى تراجع فعالية المواد المتفجرة بفعل سوء التخزين أو رداءة التصنيع.

وأوضح عريقات أن التعامل مع هذه المخلفات يتطلب خبراتٍ هندسيةً عاليةً ومعداتٍ متطورة، محذرًا من أي محاولاتٍ بدائيةٍ للتعامل معها قد تؤدي إلى كوارث جديدة، داعيًا إلى تشكيل فرقٍ هندسيةٍ متخصصةٍ مزوّدةٍ بأنظمة تفكيكٍ عن بُعد، إلى جانب تنفيذ حملات توعيةٍ مكثفة، خصوصًا بين الأطفال، لتجنّب ملامسة أو جمع الأجسام المشبوهة التي قد تكون متفجراتٍ متنكرة.

وأشار عريقات إلى أن كمية المتفجرات التي أُلقيت على غزة تجاوزت 30 ألف طن، وفق تقارير المرصد الأورومتوسطي ودائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام، وهي كمية تفوق بأضعاف ما أُلقي على مدينتَي هيروشيما وناجازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.

وأضاف أن هذه الكمية الهائلة من الذخائر المطمورة داخل الركام جعلت غزة من أكثر مناطق العالم تلوثًا بالمتفجرات، مشيرًا إلى أن عملية تطهيرها ستتطلب سنواتٍ طويلة وجهودًا هندسيةً دوليةً ضخمة.

ورأى واصف عريقات أن بقاء هذه الذخائر يعني استمرار الحرب بأشكالٍ أخرى، مشددًا على أن "العدوان انتهى شكلاً، لكنه مستمر في جوهره عبر ما خلّفه من متفجراتٍ تقتل بصمت".

خطر دائم

يوضح الناطق باسم جهاز الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أن التقديرات تشير إلى وجود أكثر من سبعة آلاف طن من المتفجرات والمخلفات التي لم يتم تفكيكها بعد في قطاع غزة.

وبيّن بصل أن فرق الإنقاذ تعمل في ظروفٍ شديدة الخطورة، إذ يمكن لأي حركةٍ خاطئة أثناء انتشال الجثامين أو إزالة الركام أن تتسبب بانفجارٍ يودي بحياة أفراد الطواقم أو المدنيين المتواجدين في المكان.

وأضاف أن كثيرًا من هذه المخلفات تم العثور عليها داخل منازل مدمّرة، وفي طرقات مزدحمة ومناطق زراعية، ما يجعل كل مهمة تنظيف أو إنقاذ أشبه بعمليةٍ ميدانيةٍ محفوفةٍ بالموت، في ظل غياب المعدات المتخصصة وضعف الإمكانيات التقنية المتاحة للدفاع المدني.

ووفق بيانٍ صحفي للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن نحو 20 ألف قذيفةٍ وقنبلةٍ غير منفجرة تنتشر في مناطق مختلفة من القطاع، ما يضع المدنيين في دائرة الخطر بشكلٍ مستمر.

تلوث صامت

يؤكد المختص في مجال الهندسة البيئية سعيد العكلوك أن الذخائر غير المنفجرة والمخلفات العسكرية المنتشرة في أنحاء قطاع غزة تمثل مصدر تلوثٍ جديدٍ يفاقم الأضرار البيئية التي خلّفها العدوان الأخير، مشيرًا إلى أن آلاف القذائف والقنابل التي لم تنفجر بعد جعلت مساحاتٍ واسعة من الأراضي الزراعية غير صالحةٍ للزراعة أو السكن.

سعيد العكلوك: المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية الناتجة عن الذخائر تترك آثارًا طويلة الأمد على جودة الهواء والمياه، ما يهدد النظم البيئية والمناطق الزراعية ويضاعف المخاطر الصحية على السكان

ويوضح العكلوك لـ"الترا فلسطين" أن أضرار هذه المخلفات لا تقتصر على الانفجار فحسب، بل تمتد لتعيق عملية التعافي البيئي في القطاع، إذ تسهم بقايا المتفجرات في تلويث التربة والمياه الجوفية والبحر، خصوصًا مع تدمير شبكات الصرف الصحي وتسرب المواد السامة إلى البيئة.

وأضاف العكلوك أن المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية الناتجة عن الذخائر تترك آثارًا طويلة الأمد على جودة الهواء والمياه، ما يهدد النظم البيئية والمناطق الزراعية ويضاعف المخاطر الصحية على السكان في المدى القريب والبعيد.

العدالة الغائبة

يؤكد خبير القانون الدولي الإنساني صلاح عبد العاطي أن القوة العسكرية التي استخدمت الذخائر المتفجرة تتحمل التزامًا قانونيًا صريحًا بإزالة مخلفاتها بعد انتهاء الأعمال القتالية، وهذا يشمل تحديد مواقع الألغام والذخائر غير المنفجرة، ونشر خرائط تحذيرية للمدنيين، وتطهير المناطق المتضررة، بالإضافة إلى تقديم المساعدة للضحايا.

وأوضح عبد العاطي لـ"الترا فلسطين" أن عدم التزام القوة القائمة بالاحتلال أو الطرف المقاتل بهذه الالتزامات يُعد إخلالًا جسيمًا بالقانون الدولي الإنساني، ويرتقي إلى مستوى جريمة حرب، مؤكدًا أن استمرار ارتقاء الشهداء بعد انتهاء العمليات العسكرية يُظهر تقاعس الاحتلال عن واجباته الوقائية.

وبيّن عبد العاطي أن المسؤولية قد تمتد أيضًا إلى القادة العسكريين والسياسيين وفق مبدأ "المسؤولية القيادية" في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مضيفًا أنه إذا ثبت علمهم بالمخاطر وعدم اتخاذهم تدابير لإزالتها، فإن ذلك يُعد جريمة حرب وفق المادة (8) من النظام ذاته.

صلاح عبد العاطي: القوة العسكرية التي استخدمت الذخائر المتفجرة تتحمل التزامًا قانونيًا صريحًا بإزالة مخلفاتها بعد انتهاء الأعمال القتالية

وأشار عبد العاطي إلى آلياتٍ دوليةٍ لمساءلة مرتكبي هذه الجرائم، منها المحكمة الجنائية الدولية ولجان تقصّي الحقائق الأممية وولاية بعض الدول على المستوى العالمي، كما يمكن للمنظمات الأممية المتخصصة توثيق المخلفات واستخدامها كأدلةٍ قانونية، لكنه أوضح أن الفعالية العملية لهذه الآليات محدودة رغم إمكاناتها النظرية.

وأكد عبد العاطي أن ترك السكان المدنيين عرضةً لمخاطر الذخائر غير المنفجرة، دون خرائط أو تحذيرات أو إزالة، يمكن أن يُصنَّف كجزءٍ من سياسات العقاب الجماعي المحظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، ويشكّل انتهاكًا للحق في الحياة والسلامة الجسدية، وقد يرتقي إلى جريمةٍ لا إنسانية إذا ارتبط بنمطٍ واسعٍ من الأفعال الممنهجة، وهو ما يحدث في مناطق مدنيةٍ مكتظة مثل غزة.