كيف يتحمل قلب الإنسان أن يسلم بيته للصواريخ؟ أن يهرول للخروج منه تاركًا كل شيء؟ ألا يكون بذلك ترك قلبه وحياته لتنهار الحجارة فوقهما؟ الأصعب أنه مجبر على فعل ذلك دون إلقاء نظرة أخيرة عليه، فكل ثانية محسوبة من عداد العمر أمام وحشية العدو.
أوقات صعبة عاشها الكثير من أبناء قطاع غزة حين وصلتهم إشارات إخلاء لبيوتهم من الاحتلال، وجدوا أنفسهم مضطرين لترك بيوت وضعوا فيها جهد السنين، وعاشوا فيها أيامهم بحلوها ومرها، وفي كل زاوية لهم سيل من الذكريات، خسائر مادية ومعنوية كبيرة تقع لحظة تنفيذ التهديد، ليس فقط لخسارة البيت ومحتوياته، وإنما لأن الوضع النفسي ينسي الناس حمل بعض أشيائهم المهمة مثل الذهب والحواسيب والأموال.
الإخلاء لا يكون للبيوت فقط، بل أيضًا مراكز الإيواء والخيام، وهذه الأماكن وإن لم يكن عند سكانها انتماء لها كانتمائهم لبيوتهم، إلا أن فيها ممتلكاتهم، أي أن خسائرهم المادية كبيرة
منذ اندلاع الحرب وحتى يوليو الماضي دمر الاحتلال نحو 190115 مبنى، نسبة قليلة منها وصل أهلها إشارة إخلاء فخرجوا منها يسابقون الزمن، وفي بداية الشهر الماضي، شن الاحتلال هجمة شرسة على المباني بزعم أنه "أجرى بحثًا استخباراتيًا واسعًا ورصد نشاطًا إرهابيًا مكثفًا لمنظمة حماس في مجموعة واسعة من البنى التحتية في مدينة غزة، وخاصة في الأبراج متعددة الطوابق".
الإخلاء لا يكون للبيوت فقط، بل أيضًا مراكز الإيواء والخيام، وهذه الأماكن وإن لم يكن عند سكانها انتماء لها كانتمائهم لبيوتهم، إلا أن فيها ممتلكاتهم، أي أن خسائرهم المادية كبيرة.
ولأن الحرب الحالية، لشدتها وطول مدتها، أكسبت الغزيين خبرات جديدة لم يأخذوها من الحروب السابقة، تغيرت فكرتهم عن الإخلاء وطريقة تنفيذه، من ذلك أن كثيرًا منهم لم يترددوا في إلقاء حقائبهم وأثاثهم من النوافذ في محاولة لإنقاذ أكبر كمية ممكنة من مقتنياتهم.
خروج أخير
هدى المسارعي اجتمع عليها اثنان من أشكال ألم مغادرة البيت، الإخلاء والنزوح، فبينما كانت تلقي نظرة وداع على بيتها وتتأمل كل تفاصيله متمنية ألا تكون هذه اللحظات آخر عهدها به، قطع عليها الاحتلال أمنياتها، إذ وصل أمر إخلاء البناية في الوقت الذي كانت تهم فيه بالنزوح نحو المحافظة الوسطى.
قضت أكثر من أسبوعين في البحث عن مكان مناسب في المحافظة الوسطى دون نتيجة، ولما اشتد الوضع خطورة في منطقة سكنها، اضطرت للخروج دون وجهة محددة، على أن تترك الحقائب في بيت أحد المعارف. نقل زوجها وشباب العائلة أغلب الحقائب من الطابق الخامس حتى الأرضي، وقبل أن يرتبوها داخل الحافلة وصلت إشارة الإخلاء.
تقول: "تجهزنا أنا وإناث العائلة وبقينا في المنزل بانتظار انتهاء الرجال من نقل الأغراض، لكنهم طلبوا منا النزول بسرعة، فتعجبنا من الطلب لكونهم لم يكملوا المهمة بعد، لم يخطر على بالنا أبدًا الإخلاء"، مضيفة: "نزلنا بسرعة، وضع الرجال كل شيء في الحافة دون ترتيب لنخرج من المنطقة بسرعة".
لم تأخذ المسارعي وقتًا كافيًا في فهم ما يجري، ولا في الحزن على بيتها، فلم تستوعب الأمر إلا والحافلة تبتعد عن المكان. وفي الطريق، ومع كل صوت انفجار كانت تتساءل إن كان هذا الصاروخ دمر البناية أم مكانًا آخر، ولم تحصل على الإجابة حتى اليوم، فقد فرغت المنطقة من السكان، وما سمعته من بعض من اقتربوا من المكان قبل سيطرة الاحتلال عليه متضارب.
حين تتذكر حال الجيران وقت الإخلاء، تحمد الله على تمكنها من نقل حقائبها، توضح: "كنت مستعدة، لكن جيراني لم يكونوا كذلك، المشهد كان مؤلمًا، الكل يجري حاملاً أي شيء، نساء وأطفال يحملون أغراضهم ويلقونها على مقربة من البناية ويعودون لحمل المزيد دون التفكير في أنفسهم، فمن يتحمل فقدان كل شيء في لحظة؟".
لم تأخذ المسارعي أثاث بيتها كما فعل أغلب الغزيين، فلا مكان لتضعه فيه، ولا يتحمل قلبها أن تحرقه حطبًا، واحتمال فقده بسبب القصف أهون بالنسبة لها، رغم حزنها الشديد على كل قطعة في بيتها الذي عاشت فيه سنوات وتعبت كثيرًا من أجل امتلاكه.
مع بدء انسحاب قوات الاحتلال، تنتظر وصول المواطنين لمحيط سكنها، علها تحصل على خبر يسرها فتعود لبيتها بدلًا من البحث عن وجهة أخرى.
إخلاء داخل إخلاء
كان محمد أبو القمصان وأفراد عائلته على مقربة من بيتهم حين وصل أمر الإخلاء، فقد كانوا خارجه بسبب تهديد الاحتلال بناية أخرى مجاورة. يقول: "وصلت إشارة إخلاء لبناية مجاورة، فخرجنا من بيوتنا على أن نعود لها بعد دقائق أو ساعات على أقصى تقدير، لكن الصدمة كانت حين أبلغنا جارنا باتصال الاحتلال به وإبلاغه بإخلاء بناية عائلتي".
ويضيف: "خرجنا دون أخذ أي شيء على اعتبار أننا سنعود، لذا غامرت بالدخول للبيت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كانت مخاطرة كبيرة، تملكتني فيها مشاعر كثيرة، رعب وقلق وتوتر"، متابعًا: "صعدت للطابق الخامس على عجالة وأخذت أشياء قليلة جدًا، بينما كانت تتعالى أصوات إخواني الخائفين عليّ ينادونني من الطابق السفلي، شكلوا ضغطًا عليّ دفعني للخروج بسرعة".
نصف ساعة فقط فصلت بين التهديد والتنفيذ، وبهذا التدمير لم يفقد أبو القمصان بيت أسرته ومقتنياته وذكريات طفولته فقط، بل فقد مستقبله أيضًا، كان يستعد للزواج في شقة بناها بعرق الجبين في بناية العائلة.
في مكان قريب، وقف أبو القمصان وبعض أفراد عائلته يراقبون ما يحدث، والأمل يحذوهم ببقاء البناية المكونة من خمسة طوابق ويسكنها ست أسر، حتى رأوها تنهار حجرًا حجرًا، يوضح: "شاهدنا لحظة تدمير المنزل الذي جمع ذكرياتنا منذ الطفولة وحتى آخر لحظات قبل هدمه".
10 دقائق
قبل أشهر، اقترب الخطر من منطقة سكن أمل عوض، فاستعدت للخروج من منزلها وحزمت أمتعتها، لكنها لم تجد وسيلة مواصلات، فقررت أن تتأخر لليوم التالي، وقبل أن يحل الصباح جاء صوت أحد الجيران يجوب الشوارع مناديًا: "اطلعوا بسرعة، حيفجروا الحارة بعد عشر دقايق".
خرجت الأسرة تهرول نحو بيت أحد الأقارب، حمل كل من أفرادها حقيبته الشخصية، تاركين كل ما جهزوه مسبقًا. تقول: "رغم استعدادي للنزوح، إلا أن الدقائق السابقة للإخلاء كانت بالغة الصعوبة، فحين جهزت كل شيء لأحمله معي كنت أظن أنني أملك وقتًا كافيًا لنقله، لذا لم أرتب أغراضي وفق أولويات تمكنني من انتقاء القليل منها وترك الباقي".
وتضيف: "بناتي أردن اختيار بعض الحقائب وتعديل محتوياتها، لكنني صممت على إخراجهن فورًا، فما كان من إحداهن إلا أن ارتدت جلبابين اثنين في محاولة أخيرة لأخذ قطعة إضافية من ملابسها".
مما جهزته ولم تأخذه أيضًا، ما بقي في البيت من مقتنيات ابنتها التي غربتها الحرب، تزوجت قبلها بسنة تقريبًا، وفي بدايتها فقدت بيتها دون أن تأخذ شيئًا من أغراضها. توضح أنها في الدقائق الأخيرة في بيتها انتابها حزن شديد على بيتها المهدد بالتدمير، لكن خوفها من انهياره على أسرتها كان أكبر.
كانت أمل محظوظة ببقاء بيتها قائمًا رغم تضرره الشديد، إذ انهارت أغلب جدرانه، وطارت بعض قطع الأثاث خارج البيت بفعل القصف الكثيف والقريب، بالإضافة لتلف الكثير من الأشياء مثل الأدوات المنزلية.
تمكن زوجها وأبناؤها من التردد على البيت في الأيام التالية، وحملوا باقي حقائب الملابس وبعض قطع الأدوات المنزلية الضرورية، وأخذوا ما تكسر من الأثاث ليشعلوه حطبًا، أما القطع السليمة ومستلزمات كثيرة أخرى فلم يكن من الممكن نقلها بسبب الخطر وانعدام وسائل المواصلات.
الخروج أولوية أولى
يطرق عدد من سكان البناية أبواب السكان الباقين بجنون، لا يقولون سوى كلمة واحدة: "إخلاء"، يرددونها كثيرًا وبصوت عالٍ... كان هذا المشهد آخر عهد عبد الله أحمد بشقته، قبل أن يكرر الكلمة ذاتها لأهل بيته: "إخلاء، إخلاء...".
يقول: "لا وقت محدد لتنفيذ التهديد، قد يتم في دقائق أو ساعات، لذا ينبغي الخروج من البيت بأسرع وقت، حتى إن فقدنا كل ما نملك، فليس أغلى من الأرواح".
ويضيف: "في هذا الوقت القصير، على الإنسان أن يفعل كل شيء، وأن يتخذ أصعب القرارات، تأمين أفراد الأسرة، وتحديد أهم ما يجب أخذه، وأخذه بالفعل، فالتوتر ينسينا كل شيء".
أما أهم ما يجب أخذه، فقد غيرته الحرب، أحمد الذي جرب الإخلاء سابقًا لاحظ اختلافًا في محتويات حقائب بناته، يوضح: "خرجنا من بيتنا في بداية الحرب بعد تهديد المنطقة، حملنا حقائب صغيرة فيها قطع محدودة من الملابس كنا جهزناها سابقًا، ولم نعد للبيت إلا بعد أكثر من سنة".
ويبين: "ابنتاي الكبيرتان (15 و17 عامًا) جهزتا حقيبتي الطوارئ الخاصتين بهما هذه المرة بطريقة مختلفة، فبدلًا من الملابس وضعتا الذكريات، مثل هدية من صديقتهما الشهيدة، وقميصًا مفضلًا، وسبحة أبي الراحل".
ليتمكن من شراء هذا البيت، ادخر من راتبه على مدار أربع سنوات، ثم قضى ثلاثًا أخرى يدفع الأقساط، لذا "فالأمر لا يتوقف عند ما نأخذه وما نتركه، شعور صعب أن تعد الدقائق لتدمير بيتك الذي ظننته بيت العمر ووضعت فيه جهد السنين"، على حد قوله.
تجربتان
إسراء محيسن عاشت تجربة الإخلاء بشكلين مختلفين خلال وقت قصير، فبينما كانت تجهز الحليب لرضيعتها، سمعت مناديًا في الشارع يخبر الناس بصوت مرتفع بوصول اتصال له من الاحتلال يخبره بإخلاء الحي.
وبينما كانت ترتدي ملابسها لتخرج، انهارت صغيرتها خوفًا من حركة أهل البيت السريعة، فحملت ابنتها وحقيبة صغيرة وضعت فيها النقود والذهب.
أمام باب البيت لمحت حقيبة ملابس الطفلة فطلبت من حماها إحضارها، وحين وصلت مكان النزوح اكتشفت أنها لم تأخذ شيئًا تقريبًا، حتى الحليب والحفاضات لابنتها.
التجربة الثانية عاشتها عن بعد رعبًا على أهلها، حين وصلت رسالة على "واتساب" تفيد بقصف المدرسة التي نزح إليها أهلها. سوء الإرسال الناتج عن تدمير البنية التحتية أخر تواصلها مع أهلها، وبعد محاولات اتصال كثيرة أجابت أختها، فأخبرتها أنهم يستعدون للخروج بعد ورود إشارة إخلاء ولم يتم القصف بعد.
بعد دقائق سمعت صوت انفجار ظنته ناتجًا عن استهداف المدرسة بينما أهلها لم يخرجوا منها بعد. استهدف الاحتلال بناية مجاورة للمدرسة، وتبين أن الإخلاء كان لهذا السبب، وعاد النازحون للمدرسة في اليوم التالي.
تقول إسراء: "في إخلاء البيت مشاعر مختلطة، فإلى جانب الخوف الشديد، حزن على البيت وأمنيات ببقائه، وهذا الأمر يختلف كليًا عما شعرت به حين خرج أهلي من المدرسة، فهي مجرد مكان نزوح، لا انتماء لها ولا ذكريات جميلة فيها، لذا لم أشعر أنا ولا أهلي بشيء مما شعرناه حين أخلينا بيوتنا أو حين دمر الاحتلال بيت العائلة".