Bisan

حيوانات غزة الأليفة: رفقاء النزوح والجوع تحت نار الحرب

Soruce تقارير
حيوانات غزة الأليفة: رفقاء النزوح والجوع تحت نار الحرب
آصال أبو طاقية

آصال أبو طاقية

صحفية ومدونة فلسطينية من غزة

كانت البيوت الغزية لا تخلو من قطة أو طائر أو كلب صغير؛ لتصبح الحيوانات الأليفة جزءًا من يوميات الناس وملاذًا نفسيًا في واقع مثقل بالحصار والبطالة. وفي أزقة غزة اعتاد الأطفال ملاحقة القطط والاعتناء بها، فيما امتلأت البيوت بأقفاص العصافير وأحيانًا بكلاب للحراسة أو الرفقة؛ كان اقتناء هذه الحيوانات تعبيرًا عن حنين إلى الدفء العائلي وعن رغبة في خلق مساحة صغيرة من الحياة الطبيعية وسط واقع غير طبيعي.

لكن الحرب قلبت هذه الصورة رأسًا على عقب؛ إذ تحولت الرعاية إلى رفاهية مستحيلة، وصار الطعام والدواء نادرًا أو باهظَيْنِ الثمن، ليتحوّل الونس القديم إلى عبء يثقل كاهل العائلات.

الحرب في غزة لم تستهدف البشر فقط، بل شملت كل كائن حي يجد في بيوت الغزيين مأمنًا وونسًا

نتقاسم الحياة

عند مدخل خيمة صغيرة على شاطئ بحر خان يونس يقف محمد عبد الغفور، وإلى جواره كلبه "شيكو" لا يفارقه كظل وفيّ.
يروي محمد أن لقاءه الأول بِـ"شيكو" كان في الأيام الأولى للحرب؛ وجده هزيلًا يترنح من الجوع قرب الخيمة. لم يتردد لحظة في احتضانه وإطعامه بما توفر، ومنذ ذلك اليوم صار الكلب فردًا أصيلًا في العائلة التي تقاوم مرارة النزوح داخل الخيمة.

يقول محمد لـ"الترا فلسطين": مع مرور الوقت أصبحت علاقتنا أعمق، حتى غدا شيكو أقرب الأصدقاء وأكثرهم وفاءً. نأكل معًا من نفس الطعام؛ الخبز الجاف والمعلبات وحتى البازلاء والحمص التي نطهوها هنا. لم يعد هناك ما يخصه وحده، بل نقتسم كل شيء، وهو يرضى بالقليل كما نرضى نحن".

غير أن رعاية الكلب وسط الحرب لم تكن سهلة؛ فالعلاج البيطري والتطعيمات غابت كليًا، ولم يبق أمام محمد سوى أن يمنحه الدفء والرفقة تعويضًا عن كل ما فقده.

ويختم بحزم: "شيكو عاش معي الجوع والنزوح، وكما لم أختر أنا هذه الظروف لم يخترها هو أيضًا. لذلك لن أتخلى عنه أبدًا؛ في كل نزوح أو ترحال سيبقى بجانبي، فهو أكثر من مجرد كلب... إنه قطعة من قلبي".

"سكر" نازح صغير في خيمة

فيما تروي مريم أبو ناموس أنها قبل أن تجد قطها الحالي "سكر" كانت قد اقتنت قطة من مركز إيواء قريب من مستشفى ناصر، بعدما عجز أصحابها عن الاحتفاظ بها في ظل سوء أوضاعهم. بقيت لديها نحو شهرين، لكن طبيعة تعلق الغزيين بحاجاتهم أعادت أصحابها ليطالبوا بها، فعادت أدراجها وبقيت مريم تنتظر فرصة جديدة.

هذه الفرصة جاءت على هيئة قطة صغيرة ملقاة في الشارع المقابل لخيمتها في المواصي خان يونس. كان "سكر" مغطّى بالشحبار، جسد نحيل يلتهم الطعام بنهم شديد دلّ على جوع طويل. "كان مثلنا تمامًا"، تقول مريم، "نازحًا صغيرًا يبحث عن ملجأ". ومنذ تلك اللحظة أصبح وجوده متنفسًا لها ولأطفالها، يخفف شيئًا من الضغط والخذلان الذي يعيشه سكان الخيام.

لكن العناية به لم تكن سهلة، فالحيوانات تحتاج إلى تطعيمات منتظمة وأطعمة خاصة لم يعد من الممكن الحصول عليها. تضيف مريم: "قبل الحرب كنت أعتني بقطة أخرى وأوفر لها كل شيء، أما الآن فالأمر مستحيل، ومع ذلك تآلفَ سكر معنا كما فعلنا نحن؛ يأكل مما نأكل: المعلبات والبازلاء والحمص، أي شيء يتوافر في الخيمة".

تضحك مريم وهي تذكر كيف يمازحها الجيران كلما سمعوا صوتها وهي تبحث عنه بصوت مرتفع فيقولون: "الحقوا، في ولد ضايع". لكنها تؤكد أن "سكر" صار جزءًا من العائلة، مسؤوليتها الشخصية التي لن تتخلى عنها. "إن نزحنا مرة أخرى"، تقول بثقة، "فسيكون نازحًا معنا، في حضن طفلي عمر على سيارة النزوح".

غابت أصواتهم

أما الشاب محمد العزازي، من عشّاق تربية الطيور، فيقول إن وجودها في بيته لم يكن مجرد هواية، بل جزءًا من حياة العائلة اليومية. فقد اعتاد أطفاله زيارة غرفة الطيور باستمرار، يتسلون بها ويتأثرون عند فقدان أي طير، حتى صارت رفيقًا عاطفيًا يبعث على الأمان والمرح.

لكن النزوح قلب الموازين. يروي محمد: "مع اشتداد القصف لم نتمكن من حمل جميع الطيور، تركنا بعضها خلفنا لتَلْقَى مصيرها بسبب القصف الشديد؛ كان قرارًا موجعًا، لكن لم يكن لدينا خيار".

حتى الطيور التي رافقتهم في النزوح لم تسلم من المشقة؛ إذ ارتفع ثمن الأعلاف بشكل هائل، وصار توفير الغذاء والبيئة المناسبة شبه مستحيل. ومع ذلك بقيت الطيور تُعامل كأفراد من العائلة. ويضيف: "فقدان الطيور يترك ندوبًا في القلب لا تندمل، خصوصًا لدى الأطفال الذين كان صعبًا عليهم غياب أصواتها من البيت".

ورغم مرارة التجربة يقول العزازي: "نحمد الله أن يبقى معنا بعض الطيور، ولو كان بيدنا خيار لنقلناها إلى مكان آمن يوفر لها ما تحتاجه؛ الحرب لم تجرح البشر فقط، بل كل ما في غزة، حتى الطيور".

وكذلك لم تكن "بيلا" بالنسبة لليان محمد (16 عامًا) مجرد قطة؛ كانت صديقة صامتة تحفظ أسرارها وتمنح البيت دفئًا وونسًا. مع بداية الحرب أصبح توفير طعامها معركة يومية، حتى غدت رعايتها عبئًا ثقيلًا على العائلة.

لكن الموقف الأقسى جاء حين اقتربت الدبابات واضطرّوا للنزوح بسرعة. تركت ليان قطتها في الشارع، تنظر إليها بعينين بريئتين، بينما قلبها يتمزق وهي تمضي بعيدًا. لم يكن قرارًا، بل جرحًا فرضته السرعة والخوف.

منذ ذلك الحين ظل فقد "بيلا" غصة في قلبها. تقول ليان: "كنت أتمنى أن أصطحبها معي، لكن بالكاد وجدنا ما نأكله نحن، فكيف أطعمها؟" فـ"بيلا" لم تكن مجرد حيوان أليف، بل جزءًا من الطمأنينة والونس الذي خفف قسوة العالم عنها.

قصص "سكر" و"بيلا" و"طيور العزازي" و"شيكو" ليست تفاصيل هامشية؛ بل مرايا تكشف أن الحرب في غزة لم تستهدف البشر فقط، بل شملت كل كائن حي يجد في بيوت الغزيين مأمنًا وونسًا. في قلب النزوح والجوع والخوف برزت الحيوانات الأليفة كاختبار جديد للقسوة: إما أن تُحمى كأفراد من العائلة أو أن تُترك لمصير مجهول.