Bisan

أمهاتٌ غزِّيات أصبن في حرب الإبادة: "نفسي أحضن طفلي وأعلمه المشي"

Soruce تقارير
أمهاتٌ غزِّيات أصبن في حرب الإبادة: "نفسي أحضن طفلي وأعلمه المشي"
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

تسمع الطفلة ريتا صوت القصف فتهرع إلى والدتها باكية: "ماما أنا خايفة"، مستجديةً عناقًا يطفئ قلقها. غير أنها لا تجد سوى عينين وابتسامة حزينة تواسيها من بعيد، بعدما فقدت والدتها ذراعيها في قصف إسرائيلي استهدف مخيم البريج وسط قطاع غزة.

نسبة النساء مبتورات الأطراف تبلغ 8 في المئة من إجمالي 4800 حالة بتر موثقة رسميًا. بينما يمنع الاحتلال إدخال أجهزة مساعدة على الحركة، مثل العكاكيز والعربات المتحركة

تستعيد نبال الهسي تفاصيل نجاتها بجسد غير كامل من خمسة صواريخ سقطت على منزل كانت تتواجد فيه، قائلة: "نزفت كثيرًا، ثم استيقظت في المستشفى لأجد أنني بلا ذراعين. قضيت أربعين يومًا على سرير العلاج، فيما كان قلبي مشغولًا بطفلتي ريتا ذات العام والنصف في ذلك الوقت".

نبال الهسي
نبال الهسي

وتضيف: "الصدمة الكبرى كانت عندما رأتني ريتا أول مرة بعد إصابتي، خافت مني ولم تقترب، كانت تبكي. زوجي أيضًا لم يحتمل الفاجعة، فانفصل عني بحجة أنني لم أعد قادرة على إعالة البيت، بمعنى أصبحت عاجزة، وأخذ ريتا عنده".

اليوم تجاوزت ريتا العامين، وبدأت تكبر وهي تحمل أسئلة تفوق عمرها. فعندما ترى طفلة أخرى تساعدها أمها على ارتداء الملابس، تلتفت إلى أمها بحزن وتسألها: "ماما ليه ما بتلبسيني متلها؟". وعندما تريد دخول الحمام، لا تجد سوى ذيل فستان أمها لتجرّه كأنها تستنجد بها. تقول نبال: "أحيانًا أبكي كثيرًا، أشعر أنني أنا وطفلتي طفلتان، كل واحدة منا بحاجة إلى رعاية أخرى".

تشرح نبال كيف تغيرت حياتها: "قبل الحرب والإصابة كنت فتاة شغوفة محبة للحياة، أعمل مترجمة وأقوم بواجباتي المنزلية على أكمل وجه، كنت أنتظر أن تكبر طفلتي بفارغ الصبر لأذهب معها إلى السوق، أشتري لها الفساتين، أسرّح شعرها، وأتابع عبر اليوتيوب آخر صيحات تسريحات الشعر للفتيات من أجل ريتا. كل هذا انتهى فجأة".

وسط هذا كله، تعيش نبال مع عائلتها، التي ما تزال في الشمال بعد عودة النازحين، مأزقًا يوميًا: النزوح المتكرر بحثًا عن مكان آمن يناسب وضعها الصحي، فهي لا تستطيع النهوض من الأرض دون مساعدة، وتعتمد على أمها التي أصبحت رفيقة دربها في كل تفاصيل الحياة: "أمي تطعمني، تأخذني إلى الحمام، تهتم بي وكأنني طفلة من جديد".

وكشف تقريرٌ للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن انتشار واسع لحالات بتر الأطراف بين النساء جرّاء الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، موضحًا أن هذه الإصابات لا تؤثر على الجسد فحسب، بل تمتد إلى أبعاد نفسية واجتماعية كبيرة، خاصة في ظل انهيار النظام الصحي والحصار. وأشار التقرير إلى أن هذه الأفعال جزءٌ من الفعل الثاني لجريمة الإبادة الجماعية، المتمثل في "إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير".

وفي خيمة متواضعة بحي النصر شمال غزة، تجلس شروق الجرجاوي (26 عامًا) على سرير مهترئ، تراقب طفلها إبراهيم (عامان) وهو يمد يده الصغيرة طالبًا الطعام. تحاول أن تلبي رغبته، لكن جسدها المثقل بلا قدمين يخذلها، إثر إصابة أدت إلى بترهما بينما كانت نازحة في منزل أحد أقاربها.

شروق الجرجاوي

كانت حياة شروق قبل الحرب بسيطة، في منزل صغير بحي الشجاعية تتقاسمه مع زوجها وطفلها. لم تملك الكثير من المال، لكنها امتلكت الدفء، قبل أن تحرمها الحرب الإسرائيلية من قدميها ومنزلها وزوجها، لتبقى وحيدة مع طفلها إبراهيم.

تقول شروق: "لم تكن إصابتي جسدية فحسب، بل كانت سرقة لأمومتي. كنت أتحمّل أعباء إعالة طفلي، أبيع المعجنات في مدارس الإيواء لأؤمّن لقمة عيشه وأقف في طوابير المياه. حُرمت من أبسط حقوقي وهي ممارسة شعور الأمومة تجاه طفلي، فأنا الآن لا أستطيع إطعامه أو حمله أو تغيير ثيابه، حتى أبسط تفاصيل الأمومة باتت مستحيلة".

تتذكر شروق أصعب لحظاتها عندما مرض إبراهيم وارتفعت حرارته، وكانت بحاجة إلى دواء وماء بارد، لكنها لم تستطع الذهاب. تزحف على الأرض لتصل إليه وتحتضنه بصعوبة، وتهمس في أذنه: "ماما هنا"، لكنها لم تكن قادرة على فعل أكثر من ذلك.

وتقول: "لطالما حلمت أن أمشي مع إبراهيم، أمسك بيده وأعلّمه كيف يركض، أن أحمله عندما يتعب، لكن هذه الأحلام البسيطة تبخرت. كل ما أستطيع الآن هو أن أنظر إليه من بعيد".

ورغم ذلك، لم تستسلم شروق، ومثل نساء أخريات فقدن أطرافهن في الحرب، تنتظر دورها للحصول على أطراف صناعية خارج غزة، مؤكدة: "كل ما أريده أن أربي طفلي بكرامة في مكان آمن، أن أمسك يديه وأسير معه إلى مدينة الألعاب… فقط حقي وحقه في الحياة".

يوضح مدير المعلومات الصحية في وزارة الصحة بغزة، زاهر الوحيدي، أن نسبة النساء مبتورات الأطراف تبلغ 8 في المئة من إجمالي 4800 حالة بتر موثقة رسميًا، مؤكدًا أن "الأعداد الفعلية أكبر من ذلك".

وبيّن الوحيدي لـ"الترا فلسطين" أن "النساء المصابات بالبتر في أحد أطرافهن يعشن معاناة مركبة، خاصة إذا كن أمهات، لأن المرأة في غزة تتحمل أعباء كبيرة جدًا، بدءًا من الواجبات المنزلية وصولًا إلى العمل لمساعدة الأزواج، في ظل أن أكثر من 90 في المئة من الأسر الفلسطينية في غزة أصبحت معوزة بسبب الحرب".

وقال: "عندما تفقد الأم أحد أطرافها أو كليهما، فإن معاناتها لا تقتصر على الألم الجسدي فقط، بل تمتد إلى الحرمان من ممارسة دورها الطبيعي في رعاية أطفالها، مما يسبب لها صدمة نفسية كبيرة".

وأشار الوحيدي إلى أن الفريق الطبي يُبلغ المصابة بالتدريج بحالتها حتى لا تدخل في صدمة أو نكران قد يتطور إلى اكتئاب شديد وعزلة، نتيجة شعورهن بالعجز واعتقادهن بأنهن عبء على أزواجهن وعائلاتهن.

ويمنع الاحتلال إدخال أجهزة مساعدة على الحركة، مثل العكاكيز والعربات المتحركة، كما يتعذر إجراء عمليات تركيب الأطراف الصناعية مع استمرار الحصار والحرب. كذلك، يؤثر منع دخول الفرشات الهوائية سلبًا على المصابات.

ويضيف الوحيدي: "النازحات اللواتي يعانين من بتر أطراف، سواء للأيدي أو الأقدام، يواجهن صعوبة كبيرة عند الانتقال من منطقة لأخرى، خاصة من الشمال إلى الجنوب، حيث تتراوح المسافة من 10 إلى 15 كيلومترًا في رحلة تستغرق 12 ساعة، وهو أمر مرهق جدًا".

وطالب الوحيدي جميع المنظمات الدولية والإنسانية بـ"التحرك العاجل لإنقاذ هذه الفئة التي تعاني بصمت، وتوفير الأطراف الصناعية والأجهزة المساعدة والرعاية النفسية اللازمة لهن، حتى يتمكنّ من استعادة جزء من كرامتهن وقدرتهن على العطاء".