Bisan

ألوانٌ تحت القصف: سرديّة الحرب على القماش

Soruce تقارير
ألوانٌ تحت القصف: سرديّة الحرب على القماش
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

في غزة، حيث تعلو أصوات القصف على صوت الحياة، ينبثق الفن كنبض لا يهدأ، كصرخة متوهجة وسط ظلام الحرب. هنا، يصبح الرسم والمجسم والنحت أكثر من مجرد ألوان وخامات؛ إنه صرخة حياة، وسجل للذاكرة، وأداة مقاومة ضد محاولة طمس الهوية الفلسطينية. كل لوحة، حتى وإن اقتصرت على الأسود والرمادي، تحكي عن ألم فقد، ونزوح متكرر، وحياة تتشابك بين الركام والخيام، لكنها أيضًا تحكي إرادة لا تعرف الانكسار.

الفنان محمد الحاج: "شاهدت زملائي الفنانين يضطرون لتدمير أعمالهم لاستخدامها كوقود للطهي، أما أنا لم أصل إلى تلك المرحلة، فالتضحية بأعمالي الفنية ستكون أشبه بفقد أحد أبنائي".

ورغم شراسة القصف وفقدان المواد والخيام المدمرة، لم يتوقف فنانو غزة عن الإبداع. بعضهم حوّل خيامه إلى مراسِم مؤقتة، وبعضهم استخدم أي خامة متاحة لتوثيق الألم والمعاناة اليومية. وبينما ينهار كل شيء حولهم، يظل الفنان حارسًا للذاكرة الجماعية، موثقًا قصصًا لا تصل إلى شاشات الأخبار، محافظًا على الجمال حتى وسط الخراب. الفن هنا هو مقاومة بلا سلاح، صمود بلا كلمات، وأمل يتسلل بين خطوط الفحم وألوان الحبر، ليعلن للعالم أن غزة لا تموت، وأن روحها الإبداعية ستبقى حية مهما حاول الاحتلال إسكاتها. في هذا التقرير التقينا بالفنّانين محمد الحاج، وأحمد إياد، ومحمود ربيع.

محمد الحاج: صرخة الفن في مواجهة الحرب والإبادة

محمد الحاج، فنان بصري فلسطيني يقيم في مدينة غزة، يعيش تجربة الحرب والنزوح بشكل يومي، ويواصل ممارسة فنه رغم الإمكانيات المتواضعة المتاحة له. يتحدث محمد من مخيم النصيرات، حيث نزح إلى منزل والده نتيجة القصف والدمار الذي حلّ بمدينته، ويصف تأثير الحرب على إنتاجه الفني قائلًا، لـ"الترا فلسطين": "إن المشاهد اليومية غير المسبوقة للدمار والفقد أعادت تشكيل رؤيتي للفن، فأصبحت اللوحة وسيلة لطرح أسئلة عن المصير المجهول الذي يواجه المجتمع الفلسطيني في ظل الإبادة المستمرة، لتتحول أعمالي إلى شهادة حية عن الواقع الإنساني الذي لا تلتقطه وكالات الأنباء".

لوحة للفنان محمد الحاج

قبل الحرب، كان محمد يبحث في لوحاته عن علاقة الإنسان بالأرض من خلال سردية التراث بكافة أشكاله المعمارية والشعبية والمعنوية، سعيًا للوصول إلى هوية بصرية شخصية تنقل تجربة الفلسطينيين بشكل أعمق. لكنه يوضح أن التحولات التي طرأت على غزة بعد السابع من أكتوبر أحدثت ثورة حقيقية في الفنون، حيث أصبح التعبير عن الدمار والمعاناة اليومية محورًا أساسيًا للفنانين. ورغم شحّ المواد والخامات، وجد الفنانون طرقًا متنوعة للتعبير عن الألم والمأساة، وتحويلها إلى لغة فنية تصل للعالم.

ويضيف الحاج، لـ"الترا فلسطين": "الفن أصبح ضرورة لتوثيق ما لا تلتقطه وسائل الإعلام التقليدية من تفاصيل الحياة اليومية للناس تحت القصف والاحتلال".

لوحة للفنان محمد الحاج

وعن تجربة النزوح الفردي والجماعي التي شكّلت واحدة من أصعب المشاهد الإنسانية، حاول محمد نقلها عبر فنّه، وهو ما ظهر منذ معرضه الفردي "انتقال – Displacement" عام 2021، قبل الحرب بسنتين، حيث يقول: "إن هذه التجربة كانت بمثابة استشراف لما حدث لاحقًا"؛ إذ أصبح النزوح موضوعًا مركزيًا في أعماله، ما دفعه لتطوير أساليبه وأدواته للتعبير عن معاناة الناس، وإيصال قصصهم عبر الألوان والأشكال والخامات المتاحة، لتصبح كل لوحة شهادة على صمود الإنسان الفلسطيني في ظروف استثنائية.

الفنان أحمد إياد: "لا تتوقفوا. حتى لو عصاية على الرمل، حتى لو فحم على الجدار. الفن ليس أداة غالية، الفن روح".

ويرى الفنان الحاج في الفن أداة أساسية لدعم الصمود، ليس فقط من خلال إبراز الهوية الفلسطينية والحياة اليومية والعادات والتقاليد، بل أيضًا كوسيلة للتفريغ النفسي وتوثيق الأحداث من منظور مختلف عن الإعلام التقليدي. ويصف أعماله بأنها نوع من "المقاومة الناعمة"، مشيرًا إلى أنها تعبر عن القضية الفلسطينية بلغة بصرية لا تحتاج إلى مترجم، وتسمح لكل متلقٍ أن يكتشف رسائل متعددة داخل كل لوحة، حسب إدراكه وثقافته.

لوحة للفنان محمد الحاج

وعن الأثر الشخصي للحرب، يوضح: "خلفت الحرب الكثير من مشاعر الفقد والألم. فقدتُ والدتي التي توفيت بسبب الشيخوخة والمرض، وشهداء من الأهل والأصدقاء والزملاء الفنانين، بالإضافة إلى مرسمي الذي احتوى على أكثر من 20 سنة من الأعمال الفنية والكتب والمراجع".

ومع ذلك، يجد الحاج في الفن متنفسًا للهروب من الواقع المرير والتعبير عن صرخاته الداخلية، ويعتبر أن ممارسة الرسم تمنحه القدرة على تجاوز أزمات الحياة اليومية مثل شح الموارد وارتفاع الأسعار وانقطاع الخدمات الأساسية، حتى لو كان ذلك مؤقتًا. ويوضح أنه، رغم مشاهدة زملائه الفنانين يضطرون لتدمير أعمالهم لاستخدامها كوقود للطهي، لم يصل إلى تلك المرحلة، معتبرًا أن التضحية بأعماله الفنية ستكون أشبه بفقد أحد أبنائه.

لوحة للفنان محمد الحاج

 

ويؤكد الحاج أنه يتطلع إلى مستقبل الفن في غزة بتفاؤل حذر، مشيرًا إلى أن الحرب شكّلت نقطة تحول في كل مناحي الحياة، بما فيها الحراك الثقافي والفني. ويرى أن النتاج الفني القادم سيكون أكثر عمقًا وصدقًا، وسيشكل رصيدًا بصريًا مهمًا يسهم في السردية الفلسطينية ويترك أثرًا واضحًا للأجيال القادمة، مضيفًا: "لوحاتي ليست مجرد أعمال فنية، بل وثائق بصرية تحمل شهادات على الإبادة الممنهجة ومحاولات طمس الهوية الفلسطينية".

بين الألوان والركام: أحمد إياد

بينما قدّم الفنان محمد الحاج شهادته البصرية عن النزوح والفقد، التقت "ألترا فلسطين" الفنان أحمد إياد لتكمل الصورة من زاوية أخرى: كيف يمكن للفن أن يكون صوتًا للمقاومة والأمل وسط الدمار والظروف القاسية في غزة؟

في خيمة صغيرة مضاءة بكشاف الجوال، يجلس أحمد إياد أمام لوحته، فرشاته في يده، وعيناه تترقبان كل خط يرسمه. هو فنان تشكيلي ومصمم ديكور، تخرّج من جامعة الأقصى عام 2023، حيث بدأ مسيرته الفنية منذ أعقاب حرب 2014 التي تركت آثارها في وجدانه وشكّلت بوابة دخوله إلى عالم الفن المقاوم.

لوحة للفنان أحمد إياد

"كان الرسم ملجئي منذ أن كنت صغيرًا"، يقول أحمد بينما يضع لمساته على لوحة تصور مشهد نزوح. "كنت أهرب من ضجيج القصف وأرسم على أي ورقة أجدها، ومع الوقت فهمت أن اللوحة ليست مجرد ألوان، بل هي صرخة يمكن أن تصل للعالم كله".

لا يرى أحمد في اللوحة مجرد أداة ترفيه، بل سلاحًا يوثق الحقيقة ويفضح الجرائم، حيث يقول، لـ"الترا فلسطين": "الفن يحارب بالكلمة والصورة، يمكنه أن يوصل ما يعجز الإعلام عن نقله. فكل لوحة هي رسالة للداخل الفلسطيني لتزرع الأمل، وللعالم ليرى أننا بشر ولسنا مجرد أرقام".

لوحة للفنان أحمد إياد

الفنان محمود ربيع:  "كنت أبحث عن أدواتٍ للرسم بين الأنقاض".

وتشهد أعمال أحمد على الصمود، وتوثق كل لحظة من المعاناة التي يعيشها الناس: "المعاناة أصبحت مادة غصبًا عني. كل مشهد نراه يتحول للوحة، من صرخة أم إلى طفل نازح، أجد يدي ترسم دون تفكير".

ويستذكر موقفًا ترك أثره العميق: "سمعت جملة من أهالي الشهداء: 'ماتوا بدون ما ياكلوا'. هذه الكلمات انتقلت إلى لوحتي، جسدت امرأة تحمل طفلها الشهيد بالكفن، محاطًا بالظلام والركام، والناس حولها أجساد بلا روح".

يبتسم أحمد بحزن: "تمنيت أن أرسم وردًا وأفقًا واسعًا، وليس دمًا وركامًا. لكن حتى لو وُلدت اللوحة من الألم، فهي تحمل رسالة قوية".

لوحة للفنان أحمد إياد

وسط الحصار وانقطاع الكهرباء والإنترنت، يعاني أحمد من صعوبة الحصول على أبسط أدوات الرسم. يقول: "أحيانًا الورق أو الألوان تصبح حلمًا". بعض لوحاته ضاعت تحت الركام أثناء القصف، لكنه يؤكد: "الفن الحقيقي ليس اللوحة نفسها، بل الفكرة التي يمكن أن تتجسد مجددًا".

لوحة للفنان أحمد إياد

ويتحدث أحمد، لـ"الترا فلسطين" عن أعماله: "يجد الأهالي في غزة أنفسهم في اللوحات التي أرسمها، وهذا يمنحني القوة للاستمرار. فكل كلمة تقدير، كل وقفة أمام لوحة، تعطيني طاقة للاستمرار، وهذا أكبر دعم يمكن أن يحصل عليه فنان هنا".

حاليًا، يسعى أحمد للمشاركة في معارض عالمية، كان آخرها في ألمانيا، ليظهر للعالم أن غزة ليست مجرد مأساة، بل حياة وجمال وصمود. ويوجه رسالة لأطفال غزة وشبابها الذين يحلمون بالفن رغم الحرب: "لا تتوقفوا. حتى لو عصاية على الرمل، حتى لو فحم على الجدار. الفن ليس أداة غالية، الفن روح".

ويختم قائلًا: "الفن الفلسطيني بعد الحرب سيكون أقوى وأكثر صدقًا. سيخرج من قلب المحنة، وسيكون شهادة للتاريخ ورسالة للأجيال القادمة".

لوحة للفنان أحمد إياد

محمود ربيع: الفن ترجمة للذاكرة السوداء

وفي زاوية صغيرة بين الركام، يجلس الفنان الفلسطيني محمود ربيع ممسكًا أدواته البسيطة، محاولًا تحويل الألم إلى مجسمات تنطق بذاكرة الحرب. يقول ربيع شارحًا أحد المجسمات: "هذا المجسم هو ترجمة للذاكرة السوداء التي علقت في رأسي من الحرب. حاولت أن أجسدها بأعمال فنية معبّرة تحاكي أشكال الإبادة الجماعية التي كنا نعيشها في كل دقيقة".

كان الفن الفلسطيني قبل الحرب يمزج المجسمات والتركيبات والنحت واللوحات الزيتية والفيديو آرت بألوان زاهية. لكن شحّ المواد الخام وحالة الخوف والنزوح دفعت الفنانين إلى استخدام الفحم والحبر>

من بين أعماله، صنع مجسمًا يصوّر قصف الخيام على رؤوس المدنيين، وآخر يروي قصة بيت قُصف للتو، وما إن وصل المسعفون وأفراد الدفاع المدني والصحفيون إليه حتى استُهدف بصاروخ آخر. يضيف ربيع: "في الجانب الآخر من المجسم جسدت أفراد العائلة الناجين وهم يبنون خيمة صغيرة يعيشون فيها، كنوع من التعبير عن البقاء والصمود".

لم تكن المواد متاحة بسهولة، فقد استخدم الفنان ما تبقى من بيوت مدمرة: بعض الألوان، أحجار، قطع خشب، وقليل من الإسمنت. "حتى هذه الأدوات البسيطة لم تكن متوفرة بشكل كبير"، يقول ربيع، "لكنني كنت أبحث عنها بين الأنقاض".

حتى المجسمات ذاتها لم تسلم من الحرب؛ إذ تعرّض بعضها للضرر بسبب القصف المجاور، لكنه لم يتوقف عن العمل: "كل مرة يتعرض فيها عمل للتدمير، كنت أعيد ترميمه وأكمل الطريق".

الفن قبل الحرب وبعدها

يصف فنانون فلسطينيون حالة الفن قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حيث ركز الفن التشكيلي في غزة على مضامين السفر والحصار والحياة الاجتماعية والمرأة. لكن بعد عملية طوفان الأقصى، ظهرت موضوعات جديدة تعكس شراسة حرب الإبادة.

فرضت الحرب شروطًا استثنائية على الفنانين وبيئة حياتهم؛ فاضطر بعضهم للبحث عن احتياجات يومية بسيطة، بينما واصل آخرون التعبير عن الواقع عبر الفن، موثقين الحياة في الخيام والمفتاح كرموز للهوية والصمود، كما فعل ميسرة بارود في أعماله بعنوان "لا زلت حيًا"، ورائد عيسى الذي نقل مرسمه إلى خيمته أثناء النزوح، وأحمد مهنا الذي استخدم صناديق الكرتون والفحم لتوثيق معاناة النازحين.

لوحة للفنان أحمد إياد
لوحة للفنان أحمد إياد

لم يتوقف العديد من الفنانين الغزيين عن الرسم، بل حولوا خيامهم إلى مراسِم فنية وسط الحرب. إلا أن الألوان اختفت من لوحاتهم لتحل محلها درجات الأسود، تعبيرًا عن الفقد والصدمة والألم في التنقل المستمر دون معرفة المحطة القادمة.

وكان الفن الفلسطيني قبل الحرب يمزج المجسمات والتركيبات والنحت واللوحات الزيتية والفيديو آرت بألوان زاهية. لكن شحّ المواد الخام وحالة الخوف والنزوح دفعت الفنانين إلى استخدام الفحم والحبر، واعتماد بساطة التكوين مع خطوط مضطربة وسريعة تعكس ضغط الحرب.

ظلّ الفنانون يوثقون سردية الحياة اليومية، ويفضحون همجية الاحتلال من خلال أعمال مشحونة بالعاطفة والتأثير النفسي للحرب، ولعبوا دورًا في تقديم الدعم النفسي للنساء والأطفال، وتوثيق أهوال النزوح والقصف. وقد استهدف الاحتلال المراسم والمعارض الفنية مثل محترف شبابيك وجاليري التقاء وقرية الفنون والحرف، ما أدى إلى فقدان آلاف الأعمال بين لوحات ومنحوتات وتركيبات وصور، لتصبح الخسائر جزءًا من المعاناة اليومية للفنانين في غزة.

لوحة للفنان محمد الحاج

 

لوحة للفنان محمد الحاج