Bisan

مواليد حرب غزة.. حياة تنتهي قبل أن تبدأ

Soruce تقارير
مواليد حرب غزة.. حياة تنتهي قبل أن تبدأ
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

في غزة، لا يأتي الموت فرادى، ولا يطرق الأبواب بهدوء، بل يجتاح الأرواح جملة واحدة. هنا، قد يُزهق عمر طفل قبل أن يكتمل صراخه الأول. يُولد الأطفال من رحم حربٍ لم تتوقف منذ 266 يومًا، فيختبرون الحياة لحظات، ثم يُسلَبون حقهم في البقاء بلا ذنب، سوى أنهم جاؤوا إلى هذا العالم في زمن الإبادة.

في قلب الحرب، حيث تتشابك أصوات القصف مع صرخات الألم، تُولد قصص مأساوية لا تُروى، أطفالٌ لم تُعطَ لهم فرصة للحياة، رحلوا قبل أن يفتحوا عيونهم على الدنيا، وأمهاتهم يحاولن التمسك بآخر ذرة أمل وسط ركام الدمار. هذه ليست مجرد أرقام تُضاف إلى إحصائيات الحرب، بل أرواحٌ بريئة تُزهق في بداية طريقها، وذاكرة عائلاتٍ تحطمت تحت وطأة الفقد والجراح.

في خيام النزوح وأحياء غزة المدمرة، يولد الأطفال وسط أصوات القصف ورائحة الخوف، وحياتهم تبدأ بحكاية ألم قد لا تنتهي

هنا، حيث الولادة لا تعني بداية الحياة، وحيث ذراع الأم قد تكون المهد والنعش معًا، نروي حكايات مواليد لم يُمنحوا فرصة الحلم، لأن الموت كان أسرع من أنفاسهم الأولى. أطفال لم يتذوقوا طعم الطفولة إلا للحظات معدودة، لكنهم حملوا على أكتافهم عبء الحرب وظلمها.

مواليد الحرب.. حياة لم تبدأ

في خيام النزوح وأحياء غزة المدمرة، يولد الأطفال وسط أصوات القصف ورائحة الخوف، وحياتهم تبدأ بحكاية ألم قد لا تنتهي. رصد "الترا فلسطين"، قصة حبيبة معروف، طفلة لم تتجاوز الستة أشهر، كانت تحلم بحياة بسيطة بين أحضان عائلتها في شارع النفق. لكن القدر كان له رواية أخرى، عندما اخترقت رصاصة من طائرة مسيّرة خيمتهم الصغيرة، فارتقت قبل أن تكمل عامها الأول. تروي نسرين غبن، خالة الشهيدة حبيبة، تفاصيل مأساة الطفلة التي لم تدم حياتها سوى أشهر قليلة.

"حبيبة كانت زهرة صغيرة، لم تكمل حتى نصف عامها. كنت أراها وأشعر بأنها براءة الحياة التي تمسكنا بها وسط الخراب. كنت أراها تلعب، تضحك، وأحلم معها بأن تكبر وتعيش حياة طبيعية بعيدًا عن الحروب".

وتضيف غبن: "قبل يومين من المأساة، كانت الأم، وهي طبيبة متخصصة في الطب العام البشري، قد أحضرت لحبيبة بعض البسكويت والسيريلاك، رغم ندرة هذه المواد وارتفاع أسعارها الخيالي في ظل الحصار. لم تغفل عن شراء الحفاضات رغم تكلفتها العالية، تعبيرًا عن حرصها على راحة طفلها".

وتتابع خالتها: "قبل ولادة حبيبة، كانت تسكن العائلة في بيتها الخاص، وقد جهزت الأم لطفلتها جهاز مواليد كامل، بكل احتياجاتها وأحلام الأم التي تنتظر مولودها بفرح. لكن القصف الدموي لم يترك لهم شيئًا، فقد دُمر البيت وجهاز حبيبة، ولم تستطع الأم أن تأخذ معها شيئًا من هذه التحضيرات الثمينة.

اختُطف الفرح قبل أن يُولد

تروي نسرين تفاصيل اليوم المأساوي: "كانت أختي تجهز حبيبة قبل أن تذهب إلى الدوام. فجأة، خرج طلق متفجر من طائرة كواد كابتر، أصاب رأس حبيبة وهي بين يدي والدتها. رأت الأم الرصاصة تخترق رأسها، وصرخت حبيبة صرخة ملؤها الألم بين يديها، ثم ازرقت وفارقت الحياة".

وتصف نسرين كيف حملت والدتها الطفلة مسرعة إلى المستشفى، وهي حافية القدمين، غير مدركة أن هذه ستكون آخر صرخة تسمعها من صغيرتها، مناشدة العالم أن يسمع صوتهم، وأن يرى دموعهم، وأن يتذكر أن وراء كل رقم شهيد هناك طفل وُلد بالحرب، وعاشها قبل أن يتنفس هواء الحياة.

اختاروا لها اسم "حبيبة" لتكون حبيبة الجميع، تعبيرًا عن براءة وحب كان من المفترض أن تعيشه، لكنها رحلت وسط نزوح متكرر، حتى انتهى بها المطاف في الخيمة، حيث قُتلت برصاص متفجر لم يرحم طفولة ولا أمان. و"هذه ليست قصة حبيبة فقط، بل قصة آلاف الأطفال الذين وُلدوا في ظروف لا إنسانية، ولم تُكتب لهم قصة الحياة".

قصص لم تُروَ

وفي وسط قطاع غزة تحدثت عمة الشهيدة جود عن قصة عائلة أخيها وتقول: "قبل أربعة أعوام، وهب الله أخي طفلة كالقمر أسماها "جود" بعد أكثر من عشرين عامًا من الانتظار. كانت جود فرحة العائلة، ترافق والدها في كل خطوة، كجسد واحد ينبض بالحب والأمل.

لكن في السابع من ديسمبر 2023، أغارت طائرات العار على البيت الذي نزحت إليه العائلة في النصيرات، ففقدوا جود ووالديها وجدتيها وعمتها في غارة مأساوية. دماؤهم الزكية تروي قصة حق تُدافع عنه فلسطين، ولعنة تطارد القتلة وعملاءهم."

بين حبيبة وجود، وبين كل طفل فلسطيني لم يُكتب له أن يكمل حياته، قصص لا تُروى إلا بدموع وألم، لكنها تظل شاهدة على معاناة شعب لا يتوقف عن الصمود.

وكان للقدر حكاية أخرى مع جنين عايش (35 عامًا) التي استفاقت في أحد أيام يناير الباردة، على طفلتها سارة وهي باردة كالثلج. بعد أسبوع من ولادتها عادت لخيمتها الباردة التي اضطرت إلى النزوح إليها، ومع شدة برودة الخيمة وانعدام وسائل التدفئة وشح الأغطية فارقت سارة الحياة، فلم يحتمل جسدها الصغير برودة الحياة والخيمة. تقول والدتها: "لم أر يومًا أشد صعوبة على قلبي من ذلك اليوم، اختُطِفت ابنتي من بين ذراعي في إبادة كُتبت علينا وسرقت منا كل ما هو جميل."

هذه الحرب لم ترحم أطفال غزة، فاجتمع عليهم الصاروخ وبرد الخيام وحر أيامها في الصيف وكذلك الجوع الذي نهش أجسادهم النحيلة. فقد توفي الطفل محمد زيادة، ذو الأربعة أشهر، نتيجة سوء التغذية التي رافقته وهو جنين في أحشاء والدته. وبعد أن رأى نور الحياة، لم يرَ نعيم هذه الأرض التي حرمه الاحتلال من خيراتها بفعل الحصار الذي رافق الحرب. تقول والدته لـ "الترا فلسطين": "كم كان صعبًا علي فقدانه، لكن حياته بلا طعام كانت أسوأ. لم أتخيل يومًا أن يستشهد طفلي لأنني لم أجد له حليبًا يسد به جوعه. فعانى من الجوع وسوء التغذية إلى أن فارق الحياة."

في غزة، يحتار الاحتلال كيف يقتل أطفالها في إبادة علنية يستخدم فيها أطنانًا من الصواريخ وحصارًا خانقًا أودى بحياة آلاف الأطفال، كان ذنبهم أنهم أطفال فلسطين، الأرض التي كانت شوكة في حلق محتل علَّق إنسانيته على مشانق الغزيين.

تحديات قاتلة

تؤثر الحرب بشكل مباشر وحاد على صحة المواليد الجدد منذ بداية الحمل وحتى بعد الولادة، حيث تعاني الأمهات من سوء التغذية والإجهاد النفسي وغياب الرعاية الطبية المنتظمة، مما يزيد من فرص الولادة المبكرة أو ولادة أطفال بوزن منخفض. هذا ما أكده الطبيب عيادة أبو حصيرة، استشاري طب حديثي الولادة.

ويوضح أبو حصيرة: "أما بعد الولادة، فيواجه الأطفال بيئة غير آمنة تفتقر للحاضنات والأدوية والمستلزمات الطبية، مما يعرض حياتهم لخطر فوري." مشيرًا إلى أن أبرز التحديات التي يواجهها كطبيب حديثي الولادة في ظل هذه الظروف هي نقص الحاضنات، وانقطاع الكهرباء المتكرر، وشح الأكسجين، حيث كثيرًا ما يجدون أنفسهم مضطرين لوضع أكثر من طفل في حاضنة واحدة، مما يزيد من خطر العدوى.

كما أن انقطاع التيار الكهربائي يهدد حياة الأطفال الذين يعتمدون على أجهزة التنفس، إلى جانب الصعوبات في تعقيم الأدوات الطبية وتأمين الأدوية الضرورية، مما يجعلهم في حالة سباق دائم مع الموت.

أما على صعيد تغذية الأطفال حديثي الولادة، فيوضح عيادة أن الأمهات لا يحصلن على الغذاء الكافي لإدرار الحليب، فيما يكون الحليب الصناعي نادرًا وغالبًا ما يُحضّر بمياه ملوثة، الأمر الذي يسبب أمراضًا معوية خطيرة. وفي بعض الحالات تضطر الأمهات إلى تخفيف الحليب الصناعي ليكفي لفترات أطول، مما يضر بصحة الرضيع ويعرّضه لسوء التغذية الذي قد يودي بحياته، وهذا ما يحدث فعلًا.

ويؤكد الطبيب عيادة وجود حالات متعددة لوفيات مواليد جدد، حيث يولد أطفال ويموتون خلال ساعات أو أيام نتيجة عدم توفر الحاضنات أو انقطاع الأكسجين. ويستذكر حالة مؤلمة لمولود توفي خلال انقطاع الكهرباء لبضع ثوانٍ بينما كان يعتمد على جهاز التنفس، مضيفًا أن هذه ليست حالات فردية بل تتكرر بشكل مؤلم.

وفي ختام حديثه، يوجه الطبيب عيادة نداءً عاجلًا للمجتمع الدولي، مطالبًا بوقف فوري لإطلاق النار وإدخال الإمدادات الطبية وحماية المستشفيات، مؤكدًا أن هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم، وأن حرمانهم من العلاج أو استهدافهم يمثل جريمة إنسانية تقع على عاتق العالم مسؤولية التصدي لها.

يولد أطفال الحروب محاصَرين بالموت منذ اللحظة الأولى، إذ يجدون أنفسهم في بيئة قاسية تفتقر إلى أبسط مقومات البقاء؛ لا غذاء يضمن نموهم، ولا ظروف آمنة تحتضن حياتهم الهشة. كان لـ"الترا فلسطين"، وقفة مع الأخصائية الاجتماعية عطاء عطا الله، التي تؤكد أن فقدان رضيع لم يعش سوى ساعات أو أيام لا يعني فقط انطفاء حياة، بل هو انهيار صادم يترك ندبة غائرة في وجدان الأسرة والمجتمع على حد سواء، إذ يتحوّل الحلم الذي حملته الأم في رحمها إلى كابوس يلاحقها طيلة حياتها.

وتبين الخبيرة الاجتماعية عطا الله أن قصص فقدان المواليد لا تظل حبيسة الأهل فقط، بل تتحول إلى روايات يعرفها المجتمع بأسره ويتناقلها عبر الزمن؛ فصور الأطفال الصغار، وجنائزهم، والذكريات عنهم تصبح جزءًا من الحكاية الفلسطينية، وتذكيرًا دائمًا بأن الحرب لم تستثنِ حتى من لم يعيشوا يومًا واحدًا بسلام.

وتضيف عطاء عطا الله أن العالم يجب أن يفهم أن هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد أرقام، بل أحلامٌ انطفأت، وحكايات كُتبت نهايتها قبل أن تبدأ. ومع ذلك، فإن وجودهم ولو للحظات قصيرة كان رسالة بأن الحياة رغم كل القسوة لا تزال ممكنة، وفقدانهم يمثل أقسى دليل على الواقع الإنساني القاسي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، ويعكس حجم المعاناة الفردية والجماعية التي تحملها الأمهات والعائلات والمجتمع بأسره.

ذاكرة جماعية من الحزن والخذلان

وتوضح الخبيرة عطا الله أن هذه الخسارة لا تقتصر على الجانب الفردي أو الأسري، بل تنعكس على النسيج الاجتماعي بأكمله، لتصبح جزءًا من الذاكرة الجمعية التي تراكم طبقات من الحزن والخذلان عبر الأجيال. فكل جنازة لرضيع تُشيَّع لا تمثل فقط دمعة أم ثكلى، بل تدخل في سجل من المآسي المتكررة التي تعيد تشكيل وعي المجتمع وصورته عن ذاته وعن عدوه. مشيرة إلى أن هذه التجارب المؤلمة تترسخ في المخيلة الشعبية كقصص تروى، وأغانٍ حزينة تُتوارث، وصور تظل حاضرة في وجدان الناس، ما يجعل من فقدان الرضع رمزًا حيًا للظلم والعدوان الموجَّه ضد أضعف الفئات.

وترى عطا الله أن استهداف المواليد الجدد بهذا الشكل لا يمكن اعتباره مجرد خسارة بيولوجية، بل هو تدمير متعمَّد لمستقبل المجتمع، وضرب لبذور الحياة في مهدها. وهو فعل يرقى إلى جريمة حرب وإبادة جماعية. مضيفةً أن هذا الأمر يتطلب توثيقًا دقيقًا ومحاسبة صارمة، إلى جانب وضع آليات حماية عاجلة للنساء الحوامل والأطفال الرضع في مناطق النزاع، علّها تحدّ من هذا الاستهداف الممنهج للحياة قبل أن تكتمل.

وتضيف عطا الله أن الذاكرة الجمعية لا تُختزَن فقط كألمٍ، بل تتحوّل في كثير من الأحيان إلى قوة مقاومة. فالأم التي تفقد طفلها، والأسرة التي تشيّع رضيعًا بالكفن الأبيض، والمجتمع الذي يحمِل هذا الثقل المشترك، جميعهم يعيدون صياغة معنى الحياة من جديد. يخرج من رحم الخسارة إصرار على البقاء، ورغبة في تحدي الموت، وتشبث بالحياة بوصفها فعل مقاومة في حد ذاته. وهكذا، فإن فقدان المواليد يصبح، رغم قسوته، جزءًا من سردية الصمود التي توحد الناس وتدفعهم إلى التمسك بأمل إنجاب جيل جديد يحمل مشعل الحياة.

بين فكّي الموت.. أطفال

وفقًا لبيانات الأمم المتحدة ومنظمة إنقاذ الطفل، وُلد عشرات الآلاف من الأطفال في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسط ظروف وصفتها المنظمات بـ"الجحيم". يولد طفل كل 10 دقائق في بيئة تعاني من القصف المستمر، انهيار النظام الصحي، نقص الغذاء والمياه، والاكتظاظ في المخيمات المؤقتة. العديد من الأمهات ينزفن حتى الموت، وبعضهن يلدن في ظروف غير آمنة داخل المنازل خوفًا من القصف، بينما تضطر الفرق الطبية لإخراج الأم بعد الولادة القيصرية بثلاث ساعات فقط بسبب نقص الموارد.

وقد وثّقت الأمم المتحدة ومنظمة إنقاذ الطفل شهادات مروّعة، منها ممرضة أجرت ست عمليات قيصرية لنساء متوفيات، وأخرى فقدت جنينها بعد قصف منزلها. كما حذرت التقارير من أن سوء التغذية الحاد يهدد أكثر من 135 ألف طفل دون سن الثانية، وأن الانقطاعات الكهربائية تهدد حياة الأطفال في الحاضنات. ويرى الخبراء أن استمرار الحرب طوال فترة الحمل الكاملة يعني أن أي مولود في غزة لم يعرف منذ لحظة تكوينه سوى الخوف والحرمان، فيما يطالبون بوقف فوري لإطلاق النار لحماية حياة الأمهات وأطفالهن.