Bisan

بلا طاقة ولا حركة… هكذا يلعب الأطفال الجوعى في قطاع غزّة

Soruce تقارير
بلا طاقة ولا حركة… هكذا يلعب الأطفال الجوعى في قطاع غزّة
فاطمة زكي أبو حية

فاطمة زكي أبو حية

صحافية من غزة

حين يصبح الهدوء مزعجًا، والضجيج أمنيةً، فثمة خطبٌ ما. هنا في قطاع غزة خفّ نشاط كثير من الأطفال، توقفت ألعابهم، وصارت حركتهم محدودة، فالجوع لا يرحم، يسقط بسببه الكبار في الشوارع، فماذا يفعل بالصغار؟ وهم الكبار بمهامهم وهمومهم اليوم، يفعلون كل ما ألقته الحياة على كاهلهم من أعباء، يحملون الحطب والمياه ويتسوّقون ويجوبون بين التكايا بحثًا عن لقمة تسندهم، يحرقون سعرات حرارية أكثر مما أعطتهم إياه الوجبات الصغيرة عديمة القيمة الغذائية التي تناولوها.

بعدها، هل تبقى عندهم طاقة للعب؟ هل يستغني الصغير عن الركض والقفز وركل الكرة؟ لا يستغني، لكنه لا يستطيع، ومعلومٌ أن الأطفال من أكثر الفئات تأثرًا بسوء التغذية، لذا تغيّرت ألعاب الأطفال في زمن المجاعة، يلعبون ما يناسب أجسادهم الضعيفة ولا يستنزف طاقتهم، فقد علّمتهم التجربة أن الألعاب التي أحبوها واعتادوها ترهقهم ولا قدرة لهم على الاستمرار بها.

أطفال غزة في ظل المجاعة.. كان ضجيج لعبهم يملأ البيت بالحياة، وصوت ضحكاتهم يدلّ على سعادتهم الحقيقية، أما الآن لا يدفعهم للعب إلا الملل الشديد، ابتدعوا ألعابًا جديدة لا تحتاج طاقة كبيرة، وسرعان ما يتوقّفون عن اللعب

اللعب أو الجوع

عندما تكون الغلبة للذكور، يقول الناس: "الله يعين أهلهم"، فضجيج البيت يختلف حسب جنس صغاره، وهكذا كان الحال في أسرة أفنان الشوبكي المكوّنة من أربعة ذكور وبنت واحدة، كانت إن أرادت أن تجري مكالمة هاتفية تنفرد في غرفة وتوصيهم بالهدوء دون جدوى، أما اليوم فأجرينا معها مقابلة وأبناؤها حولها لا يصدرون صوتًا.

لم يهدأ الأطفال لتغيّرٍ في شخصياتهم، السر في المجاعة، وهذا ما يُحزن أمهم التي ما عادت تتمنى الهدوء كما كانت سابقًا، تشتاق لضجيجهم، لأصواتهم وعراكهم وألعابهم. 

تقول: "عشنا المجاعة الأولى في مدينة غزة، لم يكن زوجي يدّخر جهدًا في توفير الطعام، كنا نأكل حتى في ذروة المجاعة". وتضيف: "استشهد زوجي قبل شهرين، في الوقت الذي بدأ فيه مخزون الطعام في بيتي ينتهي، والبضائع تختفي من الأسواق، ولم يترك دخلًا، الاعتماد كله على وظيفتي، أحاول أن أوفّر لأبنائي ما أستطيع"، متابعة: "الخضروات غالية وليست مشبعة، لذا أشتري الدقيق لأُسكت جوعهم، لكنه لا يعطيهم عناصر غذائية تُقيم صلبهم وتمنحهم الطاقة".

توضّح أنها في بداية الأزمة كانت تنصح أبناءها بالامتناع عن اللعب تجنّبًا للتعب وحفاظًا على الطاقة، ومع طول المدة تمكّن منهم الملل، فأصبحت تحثّهم على اللعب، لكن الخوف من الجوع تملّكهم حتى صار الرفض يأتي منهم.

أكبرهم، نائل (14 عامًا) صار رجل البيت، وسند أمه، والقائم بالكثير من الأعمال، بعد استشهاد والده، ومما يفعله لإخوته الصغار، أنه يحاول منعهم من اللعب بلطف، فحين تزيد حركة أصغرهم يدعوه للتوقف: "حبيبي بلاش تلعب عشان ما تتعب"، وإن ردّ بأنه يشعر بالملل، يكرر: "من وين ماما تجيب لنا أكل؟ بلاش نغلبها".

ينظر الكبيران من النافذة إلى أصدقائهما بينما يلعبون كرة القدم، تدعوهما للنزول، فيردّان: "ولو جُعنا؟ شو حنأكل؟ لا مش نازلين"، ويكتفيان بألعاب منزلية مع إخوتهم مثل المسابقات المكتوبة، أو يلعبون جميعًا بهاتف والدهم الشهيد، وينظرون لصوره ويسترجعون ذكرياتهم معه.

تقول الشوبكي: "أبنائي في أعمار تتكوّن فيها أجسامهم وشخصياتهم، لكن الواقع يمنع نموهم، ويسلبهم حقهم في الاختلاط بالناس واللعب وممارسة طفولتهم".

ألعاب جديدة

الفرق واضح، كان ضجيج لعبهم يملأ البيت بالحياة، وصوت ضحكاتهم يدلّ على سعادتهم الحقيقية، أما الآن لا يدفعهم للعب إلا الملل الشديد، ابتدعوا ألعابًا جديدة لا تحتاج طاقة كبيرة، وسرعان ما يتوقّفون عن اللعب.

بهذه الكلمات تختصر صابرين بهادر علاقة أبنائها باللعب منذ اشتدت المجاعة، يحدث هذا رغم أنها نازحة حاليًا عند أقاربها مع عدة أُسر أخرى، وفي البيت عدد كبير من الأطفال، وحين تحثّ أبناءها على اللعب مع أقرانهم، يأتيها الرد كسكين في قلبها: "جعان، مش قادر"، وفي أحسن الحالات يوافق الصغار ولكن التنفيذ لا يكون إلا بعد تناول الطعام المتوفر.

توضّح: "حتى عندما يلعبون، لا تستمر ألعابهم طويلًا كما في السابق، دقائق قليلة وتنخفض أصواتهم، ويكملون اللعب جالسين على الأرض، أجسامهم الهزيلة لم تعد تتحمّل".

اختلفت ألعاب أبناء بهادر، فبعدما كانوا يحبون مشاركة أبناء جيرانهم ألعابًا تعتمد على الحركة والركض والقفز في الشارع، أصبحوا يختارون ألعابًا لا تتطلب حتى الوقوف.

يجمع هؤلاء الإخوة، المتراوحة أعمارهم بين خمس وعشر سنوات، الحصى، يرمون الحصوات في الهواء، والفائز من يلتقط أكثر، يرسمون على التراب، ويلعبون "ملك وكتابة" بالعملات المعدنية.

من أثقل ألعابهم على نفس والدتهم، تلك اللعبة التي يمثّلون فيها أدوار الجوعى ومقدّمي المساعدات، يتقمّص اثنان منهم شخصيات لباحثين عن الطعام، ويقدّمه الثالث لهما، تعلّق: "الجوع يفرض نفسه على ألعابهم وأوقات سعادتهم، ما أصعب أن تصبح المعاناة جزءًا من طفولتهم".

وتقول بهادر: "منذ شهرين تقريبًا بدأ تأثير المجاعة ينعكس على أبنائي في لعبهم، حالهم حال أقرانهم، كل الأطفال في مكان نزوحي فقدوا الطاقة، يلعبون نفس الألعاب التي لا تحتاج حركة وتتأثر بالواقع".

وتضيف أن البنات تلعبن بالصلصال، تُشكّلن به أفرانًا طينية، وخبزًا، وطعامًا، وبيوتًا تشبه بيوتهن المدمّرة. وتخبرنا عن قريبتها في المرحلة الإعدادية، ذات يوم ظنّتها حزينة أو على خلاف مع ابنة عمها المقرّبة منها، ولما ألّحت عليها للصلح بينهما، اعترفت: "بعد الأكل"، فتبيّن أنها غير قادرة حتى على الحديث مع صديقتها لأنها لم تأكل منذ أكثر من 24 ساعة، ولما قدّمت لها رغيفًا، دبّ فيها النشاط وعادت لطبيعتها.

حاجةٌ ملحّة وطاقة معدومة

سهام الخزندار، مديرة روضة أطفال، تحتك بالعشرات منهم كل يوم، تقول: "من أهم حاجات الطفل في هذه الظروف اللعب لأجل الحفاظ على سلامته النفسية، لذا يضغط الأطفال على أنفسهم، يقاومون ضعف قدرتهم على الحركة، فيظهر الإجهاد عليهم فورًا، ويتقلّبون بين التعب وتمنّي الاستمرار".

وتضيف: "انعكس التجويع على ألعاب الأطفال تدريجيًا، فقدوا القدرة على التركيز في الحصة، وعلى إزعاج معلماتهم، منذ شهرين تقريبًا بدت الآثار أكثر وضوحًا وقوة على حركتهم ونشاطهم".

وتتابع: "يختلف الأمر من طفل لآخر حسب قدرة الأهل على توفير الطعام، لكن الثابت أنهم جميعًا منهكون، فالخبز ليس غذاءً مفيدًا".
توضّح أن نحو ثلث الأطفال في روضتها لا يحملون طعامًا في حقائبهم كما درجت العادة، وأكثر من ثلثي النسبة الباقية طعامهم خبز سادة، وقلّة قليلة شطائرهم محشّوة بالدقة أو الفول أو الحمص، ونشاط كل فئة يختلف عن الأخرى.

أثر الطعام على قدرة الأطفال على الحركة يظهر جليًا حين يرسل بعض أولياء الأمور الخبز لأبنائهم خلال الدوام، إذ تُبيّن الخزندار: "أحيانًا يأتي الطالب بلا طعام لعدم وجوده في البيت، وحين يتيسّر للأهل توفير الدقيق وخَبزِه يرسلون لصغارهم خبزًا سادة، يكون ساخنًا خرج للتو من الفرن، هكذا يفعل الأهل ما بوسعهم، وحين يرى الطفل رغيفه يتحسّن مزاجه وترتسم السعادة على ملامحه، وبعدما يتناوله يزيد نشاطه ويتفاعل مع معلمته".

في وقت الاستراحة بين الحصص، تُبقي المعلمات الطلبة الذين يتناولون شطائرهم في الغرف الصفّية، وترسل الآخرين للعب في ساحة الروضة، حفاظًا على نفسية من لا يجد منهم طعامًا، وتفعلن ذلك تحت ذريعة ترتيب الدور في اللعب، لئلّا تُجرحن أحدًا.
أما إن أرسل الأهل الخبز في وقت الدوام، تسمحن للصغير بتناوله فورًا، أثناء شرح المعلمة، فربما لم يأكل شيئًا من الليلة السابقة وهو بأمسّ الحاجة إليه وقت وصوله.

في بداية الأزمة، كانت الخزندار توفّر طعامًا لِمَن لا يملك من الأطفال، لكن مع اشتدادها زادت تكلفة الأمر عن قدرتها، فحدّثت الطلبة عن عمل الخير وأجر من يُطعم غيره، وفوجئت في اليوم التالي بكمية كبيرة من الشطائر أرسلها أولياء الأمور، واستمرّ الحال على هذا النحو فترة ثم بدأ يتقلّص حتى انتهى بسبب شحّ الدقيق والطعام.

تبتسم وهي تقول: "لا يهدأ الأطفال أبدًا، حتى الجوع لا يُسكتهم"، مضيفة: "يحاول الطفل أن يعبّر عمّا بداخله دومًا، فالجائع يقول إنه جائع، أو يبكي حتى يحصل على الطعام".

تستدل على ذلك بسلوك طفل لم يُكمل عامه الثالث ترسله والدته للحضانة كونها موظفة، في بعض الأيام يبكي بشدّة حين تتركه، فتسألها إن كانت جهّزت له طعامًا، وتطلب منها إحضار خبزًا له، فيسكت حين يسمع الحوار.

وعن ألعاب الأطفال الجديدة، تُبيّن أنها لا تحتاج جهدًا من جهة، ومتأثرة بالواقع من جهة أخرى، منها مثلًا، لعبة "الخيام"، تشبه اللعبة المعروفة بـ"بيت بيوت"، لكن الخيمة صارت أكثر رسوخًا في ذهن الطفل من البيت، هذا ما يراه على مدار عامين.

على الهامش، المعلّمات فقدن الطاقة أيضًا، تحكي الخزندار عن معلمة تقطع مسافة طويلة بين بيتها والروضة، ذهابًا وإيابًا، لتوفير قيمة المواصلات، في ذات اليوم الذي حاورناها فيه كانت استدعت هذه المعلمة وطلبت منها الجلوس لترتاح، وقدّمت لها حلوى "الغريبة"، لِما بدا على وجهها من تعب شديد.