Bisan

حساسية القمح تحاصر المئات في غزة بالموت البطيء

Soruce تقارير
حساسية القمح تحاصر المئات في غزة بالموت البطيء
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

يجلس الثلاثيني محمود زنّون أمام خيمته الكائنة في مواصي خانيونس، ينظر بحسرة إلى بكره بلال (13 عامًا). فالفتى الذي كان أبوه يستبشرُ خيرًا بتفوّقه الدراسي، وحفظه للقرآن الكريم، وموهبته في الرسم والخطابة، أصبح هزيلًا للغاية؛ وزنه ينقص يوميًا، وشعره يتساقط، وتظهر على جسده حساسية كأنها حروق.

بلال واحدٌ من الذين انضمّوا خلال حرب الإبادة على غزة إلى قائمة مرضى حساسية القمح؛ الداء الزلاقي (السيلياك)، وهو اضطراب مناعي مزمن يصيب الجهاز الهضمي، ويُعدّ العلاجُ الوحيد له مدى الحياة الالتزامَ التام بنظام غذائي خالٍ من الغلوتين، بشكل صارم ودائم. وبما أنّ دولة الاحتلال أوقفت في معظم أيام الحربK إدخالَ المساعدات والمواد الغذائية إلى غزة، بما في ذلك المواد الأساسية اللازمة لهذه الفئة من المرضى، فقد تسبّب الانقطاعُ الكلّي لتوريد غذائهم الخاص بانتكاساتٍ صحية ووضعٍ نفسي مزرٍ لهم ولذويهم.

تحدّث "الترا فلسطين" إلى المدير الطبي في جمعية أرض الإنسان الفلسطينية الخيرية، ماهر عبد الله، الذي يُبدِي أسفَه لكون الجمعية اليوم لا تستطيع توفير ما كانت توفّره قبل الحرب لمرضى حساسية القمح

طعام شحيح بأسعار جنونية

في كانون الثاني/يناير الماضي، صُعِقَ محمودُ بتدهور حال ابنه الصحي؛ فأيامه لا تخلو من انتفاخٍ في المعدة، واستفراغٍ متكررٍ ليلًا، وإسهالٍ شديد. وذات يوم بدا وجهُ الفتى غريبًا، وقدماه منتفختان بالكامل. خاض محمود رحلة علاجٍ صعبة بين المستشفى الميداني البريطاني والإماراتي ثم مجمع ناصر الطبي، واستغرق تشخيصُه شهرًا كاملًا.

يقول محمود: "بعد نحو شهر من المراجعات اليومية والفحوصات الداخلية والخارجية التي كلّفتني مبالغ طائلة، شُخِّص بلال بحساسية القمح (السيلياك)".

بعد نحو 20 يومًا فقط من اكتشاف مرض بلال، بدأت المجاعة الأخيرة في غزة تنحدر نحو الأسوأ. انقطعت الأصناف التي حدّدها والده كأطعمة مناسبة له، وأصبحت مسألة توفير الدقيق الخالي من الغلوتين مستحيلة. يقول محمود، الذي كان يعمل بائعًا في محل أحذية قبل الحرب، إنّ تكلفة إطعام بلال وجبةً بسيطةً من الخضار لا تقل عن 100 شيكل. 

ويوضّح: "أشتري له حبّة بندورة، وحبّة باذنجان، وثلاثة قرون فلفل، وحبّة خيار، وعلبة عصير صغيرة، بأكثر من مئة شيكل". ويتابع بحسرة: "في كثير من الأيام لا أعرف ماذا أطعمه. نحن الأصحّاء لا نجد ما نأكله، والناس تستنجد للحصول على الدقيق الذي لا يناسب ابني".

يعتقد محمود، وهو نازحٌ من رفح، أنّ انتكاسةَ ابنه الصحية نفسيةٌ في المقام الأول. يقول: "بعد الهدنة عدنا إلى بيتنا في حيّ تلّ السلطان لنجدَه قد دُمِّر بالكامل. كنتُ قد انتهيتُ من تشطيبه حديثًا". ويتابع: "منذ ذلك الحين تغيّر الولد؛ أصبح يعاني خوفًا شديدًا، خاصة خلال فترات النزوح والتنقّل من مكانٍ لآخر". ويواصل: "في إحدى المرّات دخل علينا الجنود الإسرائيليون فجأة عند الساعة الواحدة ليلًا، فاضطررنا إلى الهرب إلى منطقة المواصي من دون أن نأخذ أيًّا من أغراضنا".

الجوع يكسر الحِمية

منذ الصغر أُصيبت ميرا المصري (9 سنوات) بحساسية القمح، لكن ابنةَ بيت حانون، مدينةِ الزرع والكرم، لم يشكّل مرضُها عبئًا على عائلتها إلى حدٍّ ما؛ إذ كانت تُكرَمُ دائمًا بالخضار والفاكهة الملائمة لحميتها. ومع بدء حرب غزة والحصار الذي رافقها، أصبح «السيلياك» مرضًا ثقيلًا يحتاج إلى كثيرٍ من الجهد والاهتمام والمال للمحافظة على صحة ميرا.

تقول أم ميرا إنّ ابنتها "أصبحت جلدًا وعظمًا"، وتعاني باستمرارٍ من مضاعفات المرض. وتوضّح: "لديّ أربع بنات، ونعاني كثيرًا أنا ووالدهنّ من أجل توفير الطعام لهن، لكن ميرا همُّنا الأكبر الآن. أنظر إليها فأراها هزيلةً بوزن طفلةٍ بنصف عمرها، وتعاني حالةً نفسيةً مزرية".

ما دام المال متوافرًا لدى أم ميرا فهي لا تتوانى عن شراء الخضار لابنتها؛ تخفي حبّة البندورة والخيارة اللتين اشترتهما بثلاثين شيكلًا عن الشقيقات الأخريات، وتطلب من ميرا أكلهما خفيةً. تقول: "ما دام يتوافر معي مالٌ أشتري لها الخضار أو ما يناسبها، لكن هذا الأمر غير متاح دائمًا؛ كثيرًا ما نضطر لإطعامها ما لا يناسبها".

قبل الحرب، كان المرضى يحصلون على نحو 25 كيلوغرامًا من الدقيق الخاص شهريًا، أمّا خلالها فانقطع إمدادُ مئات المرضى من هذا الدقيق، إلا من كمياتٍ قليلةٍ بين الفينة والأخرى. وتلتمس أم ميرا العذر للجمعيات التي كانت تُعنى بطفلتها وتوفّر لها الطعام المناسب، إذ تعتقد أنّ تلك الجمعيات عاجزةٌ بالفعل عن تقديم أيّ شيء لابنتها ولمرضى حساسية القمح في ظلّ الحصار الشديد على غزة.

العدس خيارًا وحيدًا

يعرف غالبيةُ مرضى حساسية القمح وذووهم السيدةَ هدنة دراز؛ فهي مسؤولةٌ عن مجموعةٍ ضخمة على "واتساب" تضمّ مرضى "السيلياك" في غزة. في هذه المجموعة لا تتوقف استغاثاتُ المرضى، ولكلّ حكايتُه الموجعة. تقول هدنة إنّ من أصعب المواقف التي تمرّ عليها أن تتلقى اتصالًا من أمٍّ تقسم أنّ ابنها لم يأكل شيئًا منذ ثلاثة أيام، وهو يعاني كثيرًا من الضعف والجوع. وتعقّب: "تخيّلي أنّ هناك أطفالًا لم يأكلوا الخبز منذ أشهر. والأصعب أنّ كثيرين يضطرّون لتناول طعامٍ محرّمٍ عليهم مثل المعلّبات وغيرها، ما يسبّب لهم سوءَ تغذيةٍ ومشاكلَ في الامتصاص".

وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ كثيرًا من الأطفال المصابين بحساسية القمح مصابون أيضًا بالسكري، وللأسف لا تتوافر أدويةٌ أو أنسولين لتغطية احتياجاتهم، وفقًا لهدنة.

بوصفها أيضًا مريضةً بحساسية القمح، تعتمد هدنة على الأرز، لكون الدقيق الخاص بمرضى "السيلياك" غير متوافر في غزة. تقول: "كلّ اعتمادنا على الأرز، وقد وصل سعر الكيلو الواحد إلى 70–80 شيكلًا". وتتابع القول لـ"الترا فلسطين": "كنّا نعتمد على الخضار والبطاطا، لكن الآن لا شيء من هذا متوافر. أصبح اعتمادُنا الكلّي على العدسِ المجروش؛ فهذا هو الشيء الوحيد الذي نستطيع توفيره، وإلّا نبقى جائعين ونكتفي بوجبةٍ واحدة طوال اليوم، ونظلّ نشرب الماء لنسدّ جوعنا".

حصارٌ ومرضى في ازدياد

قبل الحرب، قُدِّرت الإمداداتُ اللازمة لتغطية احتياجات المرضى من الدقيق الخالي من الغلوتين بنحو 33 طنًّا شهريًا، وكانت الجمعياتُ الخيرية المعنيّة بتوزيع الطعام تتولّى مسؤوليةَ إيصال هذه الأصناف إلى مستحقيها. وحتى لو أراد المصابُ الشراء التجاري، فإنّ سعر كيلو الدقيق كان يصل إلى 20 شيكلًا فقط.

تحدّث "الترا فلسطين" إلى المدير الطبي في جمعية أرض الإنسان الفلسطينية الخيرية، ماهر عبد الله، الذي يُبدِي أسفَه لكون الجمعية اليوم لا تستطيع توفير ما كانت توفّره قبل الحرب لمرضى حساسية القمح. ويوضح أنّهم اليوم لا يستطيعون توفير 1% من احتياجات المرضى التي اعتادوا الحصولَ عليها من الجمعية، وذلك رغم أنّ للجمعية العديدَ من الشاحنات التي تنتظر على المعابر لحظةَ السماح لها بالدخول إلى قطاع غزة.

والأكثرُ مأساويةً أنّ عدد المرضى ـــ بسبب ظروف الحرب ـــ في ازديادٍ مستمر. فرغم أنّ الداء الزلاقي مرضٌ مناعيٌّ يلعب العاملُ الوراثي فيه دورًا في الإصابة، فإنّ هناك عواملَ مساعدةً أدّت إلى انتشاره أكثر خلال الحرب؛ إذ تستقبل جمعيةُ أرض الإنسان ما بين 5 و6 حالاتٍ جديدة يوميًا، ويرجع عبد الله ذلك إلى سوء التغذية، والتلوّث، والإصابة بالطفيليات، وأمراض الجهاز الهضمي. ويعقّب بالقول: "كلّ ذلك يؤدّي إلى ضعفٍ وتهتّكٍ في الجدار المبطن لخلايا الأمعاء الدقيقة، فيصبح الشخصُ عُرضةً للإصابة بمرض السيلياك (الداء الزلاقي)".

وحول المضاعفات التي يسبّبها المرضُ في ظلّ المجاعة، قال عبد الله: "نحن نتحدث عن سوء تغذيةٍ حادّ، وما يترتب عليه من نقصِ الفيتامينات والسوائل، والهزال والضعف. وعندما يكون هناك ضعفٌ وسوءُ امتصاص، يصبح المرضى معرَّضين بسهولةٍ للإصابة بأمراضٍ ناتجةٍ عن سوء التغذية، مثل نقص الحديد، والأنيميا، ونقص الكالسيوم، وهشاشة العظام؛ وبالتالي قد يحدث فشلٌ كلويّ، وقد تفضي الحالةُ إلى الوفاة في حال استمرار هذا الحرمان، مع ارتفاع احتمالية إصابتهم بسرطان الأمعاء".

يُذكر أنّ المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أطلق مؤخرًا نداءً عاجلًا لحماية حياة مرضى حساسية القمح (السيلياك) في قطاع غزة، وقال المركزُ إنّ هؤلاء باتوا مهدّدين بالموت البطيء بسبب حرمانهم من الحصول على غذائهم العلاجي، وفي مقدّمته الدقيق الخالي من الغلوتين وأصناف الغذاء العلاجي الأخرى. وجاء في تقرير المركز أنّ عدد مرضى حساسية القمح ارتفع من نحو 1000 مريض قبل الهجوم الحربي الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 1288 مريضًا حتى أيار/مايو 2025. ويُعزى هذا الارتفاع إلى الخوف والتوتر، والحرمان من الغذاء، والاعتماد على المعلّبات والأطعمة غير الصحية؛ ما يشكّل عاملًا محفّزًا يضعف الجهاز المناعي لدى أشخاصٍ يعانون أصلًا خللًا جينيًا يجعلهم أكثر عرضةً للإصابة بأمراضٍ مناعية، مثل الداء الزلاقي (السيلياك).