خرج الصياد أحمد علي مقداد (33 عامًا) برفقة أخيه محمد إلى شاطئ البحر في غزة، بعدما وعدا أمهما أنهما لن يتجاوزا الأمتار داخل البحر تجنّبًا لنيران بحرية الاحتلال، وهناك ركبا قاربهما الصغير الذي صنعاه بكلفة عالية بعدما خسرت العائلة معداتها داخل البحر. كان ذلك يوم التاسع من أيار/ مايو، وقبل أن يلقيا شباكهما أطلقت زوارق الاحتلال نيرانها، فاستُشهد أحمد فورًا، وأُصيب محمد في حوضه.
"يعرف صيادو غزة ماذا يعني أن يروا الطراد الإسرائيلي أبو العباس، فعندما يأتي هذا الزورق، يهرب الجميع إلى الشاطئ. نترك شباكنا ومعداتنا في البحر، ونُلقي بأنفسنا في البحر ونعود إلى الشاطئ سباحة"
مصابٌ جلل آخر لحق بالعائلة ذاتها بعد نحو شهر ونصف من استشهاد أحمد وإصابة محمد، فقبل أن تجد العائلة جثمانه الذي غرق في البحر، اضطر الابن الثالث حسن إلى قصد البحر من أجل إطعام أبنائه وأبناء شقيقيه الشهيد والمصاب، غير أن رصاصة إسرائيلية أصابته في رأسه فاستُشهد على مرأى شقيقه محمد الذي كان ينتظره بعكازه على الشاطئ.
يروي محمد مقداد قصة استشهاد شقيقه أحمد قائلًا: "دخلنا مسافة قريبة جدًا من الشاطئ، فأقبلت نحونا الزوارق الحربية الإسرائيلية، وقبل أن تصلنا أطلقت النار صوبنا، ثم هاجمتنا بالقذائف، استُشهد أحمد، وفُقد في البحر لأسابيع طويلة، وأنا أُصبت بقذيفة في الحوض، مما أدى إلى تكسّره وتهتّكه".
حتى هذه اللحظة، لا يعلم محمد كيف تمكن من السباحة وهو غارق في دمه للوصول إلى شاطئ البحر وإنقاذ نفسه، ويقول: "رأيت الزورق يغادر، ولو أنهم رأوا رأسي يطفو لقتلوني في مكاني".
عندما استُشهد الشقيق الثاني حسن، في 27 حزيران/ يونيو، لم تكن عائلة مقداد قد وجدت بعد جثمان شهيدها الأول أحمد، وكانت مرعوبة من فكرة فقدان ابن آخر لها، لكن حسن أصرّ على نزول البحر من أجل قوت أبنائه الستة وأبناء شقيقيه أحمد ومحمد، حيث نهش الجوع الجميع مع تصعيد إسرائيل لحرب التجويع.
كان محمد يجلس على شاطئ البحر عندما رأى الرصاصة تخترق رأس أخيه بسبب قرب المسافة، يقول: "اقترب منه الطراد الكبير وأطلق عليه مئات الطلقات، لكنه استُشهد من الطلقة الأولى التي أصابته بين عينيه. كان معه ابن خالي لكنه نجا".
هكذا، تحوّلت محاولات الوصول إلى سمك تعتاش منه عائلة الأشقاء الثلاثة إلى فاجعة فاقمت من حالتهم الاقتصادية المتردّية إثر الحرب، فيؤكد محمد أنه منذ شهور "لم يُدخل شيكلاً واحدًا إلى جيبه"، ويضيف أنه ذهب قبل أيام وهو يعرج إلى نقطة توزيع المساعدات الأميركية – الإسرائيلية في "زيكيم" محاولًا الحصول على كيس طحين، لكنه لم يحصل إلا على كغم واحد من الأرز، تقاسمه مع والدته وأسرتَي شقيقيه الشهيدَين.
عندما أطلقت إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة، كان الصياد رائد النجار (37 عامًا) يعتقد أنه سيتمكن من العودة إلى البحر الذي يسكن بالقرب منه في وقت قريب، لكن الرجل الذي لا يعرف مهنة أخرى غير الصيد وجد نفسه أمام حرب طويلة وحصار شديد على شمال غزة حين قرر عدم النزوح.
مع ذلك، قرر النجار العودة إلى البحر وهو يعلم ويرى حال رفاقه الذين يسقطون بين شهيد ومصاب ومعتقل، فهو يريد إطعام أبنائه الثمانية، يقول النجار: "لجأت مُجبرًا إلى الصيد لأُطعم أولادي، لأننا في حرب ومجاعة، وكان الملجأ الوحيد هو البحر".
يعمل صيادو غزة اليوم على قوارب بدائية صنعوها بأنفسهم وبمواد خام، يقول النجار إن تكلفتها أضعاف تكلفة القارب الكبير، ويضيف: "كل يوم هناك اعتقالات، وشهداء من الصيادين، هناك حرق لمراكبنا البدائية التي صنعناها بعدما تم تدمير مراكب الصيد الكبيرة وقوارب اللانشات ذات المحركات، إذ لم يبقَ أي محرك أو قارب صيد كبير من المعدات الثقيلة في غزة، لقد عدنا إلى نقطة الصفر".
كغيره من الصيادين، فقد رائد النجار داخل عرض البحر مركبه وشباكه، لكن عندما وُقّعت الهدنة في كانون الأول/ يناير، عجّل النجار بشراء شباك لصيد الجمبري من بحر غزة، وقد كلّفه الأمر الكثير من المال، لكن الاحتلال لم يمنحه الكثير من الوقت للاستفادة من هذا الرزق، إذ لاحقه طرّاد سريع يُسمّيه الصيادون "أبو العباس"، وأطلق النار عليه فأُصيب في قدمه.
يعرف النجار ورفاقه ماذا يعني أن يروا الطراد الإسرائيلي "أبو العباس"، فهذا الزورق السريع جدًا يحمل على متنه طاقمًا من عدة جنود يرون الصيادين أهدافًا يجب إطلاق النار عليها، فيُبيّن النجار: "عندما يأتي هذا الزورق، يهرب الجميع إلى الشاطئ. نترك شباكنا ومعداتنا في البحر، ونُلقي بأنفسنا في البحر ونعود إلى الشاطئ سباحة، هربًا من القذائف الصاروخية التي كانت تنهال علينا".
ملاحقة في إطار التجويع
قبل حرب الإبادة، كان قطاع الصيد مستهدفًا بالمطاردة وإطلاق النار والاعتقال وتدمير مراكب الصيد والتلاعب بالمساحات البحرية ومنع إدخال معدات الصيد.
ومع اندلاع هذه الحرب، أصبح الصيادون على رأس أولويات القتل والتدمير، فيوضح نقيب الصيادين في قطاع غزة زكريا بكر، أن عددًا محدودًا من الصيادين لا يتجاوز عددهم بضع مئات ما زالوا يعملون الآن في بحر غزة على قوارب صغيرة تُعرف بـ"حسكات".
ويوضح زكريا بكر لـ الترا فلسطين أنه نتيجة لحرب التجويع والحاجة لتأمين قوت أبنائهم وتوفير الغذاء، يقصد الصيادون البحر بقوارب صغيرة ولمسافات قصيرة، ورغم ذلك فإن زوارق الاحتلال الحربية تطلق النار والقذائف الصاروخية باتجاه الصيادين، "وقد أدى ذلك إلى استشهاد عدد من الصيادين، وخلال الشهرين الماضيين، فقدنا الكثير من الصيادين شهداء داخل البحر".
الأيام الأخيرة شهدت تغيير الاحتلال لأساليبه الإجرامية ضد الصيادين، ومن ذلك تنفيذ اعتقالات في مناطق قريبة من الشواطئ، ويتزامن ذلك مع مواصلة قتل الصيادين على طول الساحل
ويشير بكر إلى أن الأيام الأخيرة شهدت تغيير الاحتلال لأساليبه الإجرامية ضد الصيادين، ومن ذلك تنفيذ اعتقالات في مناطق قريبة من الشواطئ، "ويمكن للجميع أن يشاهد الزوارق الحربية الضخمة وهي تنقضُّ على الحسكات الصغيرة من مسافة قريبة على شاطئ البحر، حتى إننا وثقنا خلال الأسبوع الحالي اعتقال ما يقارب 15 صيادًا"، أضاف بكر.
لا يجد بكر تفسيرًا لإقدام الاحتلال على ممارسة الاعتقال بكثرة خلال الفترة الأخيرة، وبينما هو يُعدّد لنا حالات الاعتقالات التي تمت، قال: "يتزامن ذلك مع مواصلة قتل الصيادين على طول ساحل قطاع غزة في كل المحافظات يوميًا، فالزوارق الحربية تطلق النار والقذائف على مدار الساعة باتجاه المراكب الصغيرة القريبة من الشواطئ، وحتى المواطن الفلسطيني الذي يريد أن يهرب من الحر وينزل البحر بات هو الآخر ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية".