Bisan

أطفال غزة وأزمة النظافة الشخصية.. آثار عميقة نفسيًَا وصحيًا وتربويًا

Soruce تقارير
أطفال غزة وأزمة النظافة الشخصية.. آثار عميقة نفسيًَا وصحيًا وتربويًا
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

"أكره ريحتي" قال الطفل يزن (11 عامًا) وهو يشيح بنظره عن والدته في أحد مراكز الإيواء في دير البلح. لم تكن هذه شكوى من طفل مدلل، بل صرخة متكررة تنطلق من أطفالٍ كل ما يريدونه بضع قطرات من ماء نظيف.

الشعور بانعدام النظافة الشخصية وانبعاث رائحة كريهة قد يؤدي إلى انهيار الثقة بالنفس لدى الأطفال، وانسحاب اجتماعي، وربما اكتئاب مزمن، كما أنه يعزز شعورهم بالدونية والرفض

فبعد 22 شهرًا من حرب الإبادة، بات الاعتناء بالنظافة الشخصية مهمة صعبة للغاية، حيث لا ماء يكفي، ولا صابون، ولا حتى قطعة قماش تُنظّف ما عَلِق بالجسد من غبار وعرق، بينما الحمّامات العامة هي الخيار الوحيد لعشرات الآلاف، والوصول إليها رحلة من الزحام والحرج وربما الخطر، خاصة للأطفال.

لم يُبدّل يزن ملابسه منذ أيام، وتفوح من جسمه رائحة الرطوبة والعرق والغبار. تقول والدته: "كان دايمًا أنيق، حتى حذاؤه ينظفه يوميًا، بس اليوم انكسر من داخله"، وتضيف: "الحرب أخدت منا كل التفاصيل الحلوة، كسرتنا من داخلنا".

وتجد العائلات في غزة كل يوم نفسها أمام قرار مهم يتوجب عليها اتخاذه: هل نغسل أجساد أطفالنا أم نطبخ لهم؟ هل نستخدم آخر لتر ماء لغسل الصحون أم لغسل شعر طفلة تبكي من الحكة والحر.

وفي ساحة خيمة مفروشة بأغطية الأمم المتحدة، تجلس رُبى (8 سنوات) وهي تلعب بالرمل. حين سألناها عن آخر مرة استحمت فيها، أجابت: "بشتاق لريحة الصابون لما كنت أستحم قبل النوم"، بينما تقاطعها والدتها: "ما عنا مي، وإذا لقينا، بنخليها للشرب والطبخ".

بينما تشير سيدة سبعينية ترعى أحفادها الثلاثة بعد استشهاد والديهم إلى الطفح الجلدي على يد أحدهم قائلة: "كانوا نظاف، ولكن اليوم عندما نرى الطفح والحكة، ما بنعرف نداويهم. حتى مرهم جلدي مش متوفر، حفيدتي شعرها صار عُقَد لأنه ما في شامبو ولا مية، قلبي بزعل عليهم لكن ما باليد حيلة. أتعبتنا هالحرب".

ثمن النظافة.. ذهب

لم تقبل نادية (37 عامًا) أن تنسلخ عن تفاصيل حياتها التي اعتادت عليها قبل النزوح، فقررت مقاومة الفقد من بوابة الحفاظ على ما تبقى من الخصوصية. تقول: "صممت على زوجي أن يعد لنا حمامًا خاصًا، فأنا لا أقوى على الحمامات العامة، وأريد الحفاظ على ما تبقى لأبنائي من كرامة وخصوصية. كلفنا ذلك مبلغًا كبيرًا واضطررت لبيع أساور الذهب، لكنني حافظت على خصوصيتنا. نحن مجتمع محافظ، كيف أجعل ابنتي تنتظر في طابور عام؟".

وتكافح نادية يوميًا في وضع ميزانية خاصة للمياه، فهي تؤمن أن النظافة ليست ترفًا بل ضرورة للحماية من الأوبئة في بيئة النزوح.

بينما اضطرت عائلات أخرى للاستحمام في البحر، وهو أمر ليس متاحًا بسهولة، بل يسبقه "مشوار متعب" من خيام النزوح ومراكز الإيواء إلى البحر، الذي تحول من مساحة للترفيه إلى بديل اضطراري لحمامات النزوح، يغسل فيه الغزيون أجساد أطفالهم من عرق النزوح، دون أن يغسلوا عنهم تعب الحرب.

في حين وجدت عائلات أخرى نفسها مرغمة على شراء الماء للاغتسال، وهي ترى في ذلك وقاية من علاجات مكلفة أو غير متوفرة للأمراض الجلدية والمناعية الناتجة عن ضعف النظافة الشخصية، خاصة مع حر الصيف الشديد.

وأكدت وكالة "الأونروا"، في بيان صحفي بتاريخ 9 آب/ أغسطس، أن سكان قطاع غزة يواجهون نقصًا حادًا في مستلزمات النظافة الأساسية، حيث الحصول على الصابون أصبح شبه مستحيل.

وأضافت "الأونروا" أن التدفق المنتظم لمستلزمات النظافة الأساسية هو ضرورة ملحة، وشدَّدت على أن هذا غير ممكن إلا من خلال الأمم المتحدة.
عنف نفسي وآثار متعددة الأبعاد

يقول أستاذ الصحة النفسية درداح الشاعر إن انعدام النظافة الشخصية يترك في الأطفال أثرًا عميقًا متعدد الأبعاد، صحيًا ونفسيًا وتربويًا.

ويشرح الشاعر لـ"الترا فلسطين" الأثر النفسي على الأطفال، مبينًا أن "الطفل الفلسطيني نشأ في بيئة محافظة تُعلي من قيمة الخصوصية والنظافة، وكان له حمام خاص في منزله، أما الآن، فهو مضطر لاستخدام حمامات عامة مكتظة في خيام أو مدارس، بلا ماء كافٍ أو خصوصية، وهذا يُحدث شرخًا نفسيًا، ويزرع شعورًا بالحرج، القلق، والاختناق".

ويؤكد الشاعر أن شعور انعدام النظافة وانبعاث رائحة كريهة قد يؤدي إلى انهيار الثقة بالنفس لدى الأطفال، وانسحاب اجتماعي، وربما اكتئاب مزمن، كما أنه يعزز شعورهم بالدونية والرفض. ويضيف: "حين يرفض الطفل رائحته الكريهة فهي ليست مجرد شكوى عابرة، بل صرخة ممتلئة بالعار والانكسار، وإعلان عن إدراك الطفل لوضعه المختلف والمؤلم، ورفضه له، وشعوره بالحرمان من أبسط حقوقه كطفل".

وهل تغييب النظافة يُعدُّ عنفًا نفسيًا؟ يجيب الشاعر بأنه من "أشد أشكال العنف النفسي غير المباشر، لأنه يستهدف الكرامة البشرية مباشرة، فالنفس السويّة تنفر من الروائح الكريهة، فكيف بجسد يُحرم من الماء والصابون؟".

ويُحذر الشاعر من تطور اضطراب نفسي يُعرف بـ"الولع بالرّمم"، وهو التكيف مع البيئة القذرة بشكل يُلغي الإحساس بالمشكلة، إذ إن الطفل في هذه الحالة لا يرى في قذارته إهانة، بل واقعًا طبيعيًا، بينما من حوله يشعرون بالنفور، مما يزيد عزلته.

وفي توضيحه للأثر الصحي، يشير الشاعر إلى أن الأطفال أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الجلدية والمعوية نتيجة غياب النظافة وسوء التغذية، "فالجوع يُضعف المناعة، وانعدام النظافة يضاعف خطر العدوى، مما يجعل أجسادهم أكثر هشاشة".

أما تربويًا، فيُبيِّن الشاعر إن "الأسرة الفلسطينية لم تعتد على حياة الخيام والنزوح أو العجز عن العناية بأطفالها، وعندما تفقد السيطرة على نظافة أبنائها، يسيطر عليها شعور بالذنب والتقصير، خاصةً حين لا يتوفر حمام خاص أو ماء نظيف يحقق الحد الأدنى من الكرامة".

أمراض التلوث

يؤكد الطبيب رائد هنية، الذي التقيناه في إحدى النقاط الطبية الميدانية وسط تجمعات النازحين، أن "النظافة خط الدفاع الأول عن صحة الإنسان، وخصوصًا الأطفال"، مبينًا أن الطفل الذي لا يُغسل بانتظام، وتُترك بشرته عرضة للعرق والغبار والرمال، يصبح هدفًا سهلًا للبكتيريا والفيروسات.

رصدنا ارتفاعًا ملحوظًا في حالات النزلات المعوية، والتهابات الجلد، والجرب، والتقرحات، بل وحتى الحمى الشوكية لدى الأطفال، نتيجة تراكم الأوساخ وانعدام الاستحمام، وتلوث البيئة المحيطة بهم

ويقول هنية: "رصدنا ارتفاعًا ملحوظًا في حالات النزلات المعوية، والتهابات الجلد، والجرب، والتقرحات، بل وحتى الحمى الشوكية لدى الأطفال، نتيجة تراكم الأوساخ وانعدام الاستحمام، وتلوث البيئة المحيطة بهم".

ويوضح هنية أن الحمى الشوكية –وهي من الأمراض الخطيرة التي تصيب الجهاز العصبي وقد تؤدي إلى الوفاة أو مضاعفات دائمة– تنتشر بسهولة في أماكن النزوح المكتظة، خاصة حين تترافق الحرارة العالية مع نقص النظافة وتدهور المناعة.

ويشدد على أن "أخطر ما في الأمر أن هذه الأمراض تنتشر بسرعة بين الأطفال، وقد تتحول إلى أوبئة إن لم تُكافح بالنظافة والوقاية قبل العلاج، الذي لا يتوفر أصلًا بسهولة".