Bisan

غيلان باريه في غزة.. حين تُهيِّئ الحرب البيئة المثالية لوباء صامت

Soruce تقارير
غيلان باريه في غزة.. حين تُهيِّئ الحرب البيئة المثالية لوباء صامت
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

كانت لارا البطراوي (8 أعوام) تستعد لختام يومها عندما شعرت بأنها غير قادرة على ارتداء ملابسها، فطلبت المساعدة من أمها، وما إن انتهت والدتها من إلباسها ثيابها حتى فوجئت بسقوط طفلتها أرضًا. في تلك الليلة، نامت لارا معتقدة هي وأمها أن ما يحدث معها ناتجٌ عن سوء التغذية الذي يعاني منه الآلاف من أطفال قطاع غزة، لكن بحلول صباح اليوم التالي، كان حالها الصحي صادمًا لأسرتها.

أصعب الحالات أن تُصاب عضلات الجهاز التنفسي، فيحدث قصور في التنفس، مما يجعل الطفل يحتاج إلى تنفس صناعي لإنقاذ حياته، وفي هذه المرحلة تكون نسبة الخطورة على حياة الطفل عالية

تقول منار (28 عامًا) إنها وجدت (في الصباح) طفلتها لارا قد تبولت في فراشها وخرج الزبد من فمها ولا تستطيع الحركة، وتضيف: "لا أعلم كيف تمالكت نفسي وعجلت بها إلى المستشفى".

ما تزال الأم في حالة صدمة شديدة، تتساءل كيف أصبحت ابنتها الجميلة النشيطة عاجزة عن الحركة، ترقد منذ 38 يومًا على ظهرها دون حراك، ولا تقوى على فعل شيء. تتحدث إلينا وهي تتبادل النظرات مع لارا ثم تخاطبها: "لارا شاطرة، ستتحسن قريبًا وتعود للعب مع أختها وبنات الحارة كما كانت".

في لحظة سقوط لارا، أضيفت معاناةٌ جديدةٌ لحياة منار التي استُشهد زوجها قبل عام وخمسة شهور، لتبقى وحدها في رعاية خمسة أيتام أكبرهم في العاشرة من العمر، وأصغرهم طفلة تبلغ العامين، أُصيبت أيضًا بشكل مفاجئ بضمور في المخ.

وتعاني منار من ظروف اقتصادية صعبة، وبالكاد تستطيع توفير أجرة المواصلات من بيتها في شارع الجلاء في غزة إلى مستشفى الرنتيسي في حي النصر، وتقول: "في بعض الأحيان أعجز عن الوصول إلى لارا بسبب عدم امتلاكي أي نقود للمواصلات، ثم يأتي شح الطحين ليحول حياتنا إلى مأساة أكبر".

لا تشخيص ولا علاج

وأعلنت وزارة الصحة، يوم الأحد 4 آب/ أغسطس، أنها سجلت ثلاث حالات وفاة لمصابين بمتلازمة غيلان باريه. وذلك بعد إعلان سابق عن 45 حالة شلل رخو حاد خلال شهري حزيران وتموز 2025، مبينة، في حينه، أن هذه الحالات قد تكون شلل أطفال، أو متلازمة غيلان باريه، إذ إن التشخيص الدقيق صعبٌ لعدم توفر الأدوات اللازمة لذلك.

ويقول الطبيب محمد حجو، رئيس قسم العناية المركزة في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي التخصصي للأطفال، إن السبب الرئيس للإصابة بمتلازمة غيلان باريه هو دخول أحد أنواع الجراثيم عن طريق الفم (نزلة معوية) إلى الجسم، ما يؤثر على الجهاز العصبي الطرفي ويسبب ارتخاءً في الأطراف السفلية على شكل تصاعدي إلى الأطراف العليا.

ويُبين محمد حجو أن المشكلة تزداد عندما تُصاب عضلات الجهاز التنفسي، فيحدث قصور في التنفس، مما يجعل الطفل يحتاج إلى تنفس صناعي لإنقاذ حياته، وفي هذه المرحلة تكون نسبة الخطورة على حياة الطفل عالية، فلا يستطيع العيش بدون تنفس صناعي بسبب شلل عضلات الجهاز التنفسي.

ويقول: "نحن نفتقد كل وسائل التشخيص لهذه المتلازمة، من الأدوات المخبرية اللازمة لتشخيص الجراثيم، والرنين المغناطيسي، ولذلك فإننا نقوم بالتشخيص بناءً على الأعراض والمعطيات الكلينيكية ونبدأ العلاج".

وبيَّن الطبيب حجو أن علاج متلازمة غيلان باريه يلزمه ما يعرف بـ"بلازما فوريسس" والغلوبين المناعي الوريدي، وهو علاج يُستخدم لتعزيز الجهاز المناعي في حالات نقص المناعة أو الحالات الالتهابية، "ولكن في قطاع غزة هناك عجزٌ في كميات هذه الأدوية".

ويؤكد محمد حجو أن حرب التجويع التي يشنها الاحتلال لها أثرها السلبي على صحة الأطفال المصابين بمتلازمة غيلان باريه، "فالغذاء يساعد في التعافي، وسوء التغذية يؤدي إلى الوهن في العضلات، كما هو في حالة الطفلة لارا، فهي لا تأخذ كمية غذاء كافية لتخطي أزمتها الصحية، وكتلتها العضلية دخلت في مرحلة الوهن، مما أضر بالأعصاب".

التلوث البيئي كارثي

قبل الحرب، كانت نسبة الإصابة بمتلازمة غيلان باريه ما بين 0.5 إلى 1 في المئة ألف سنويًا بين أطفال قطاع غزة، وتتضاعف النسبة تقريبًا عند الكبار. ويُعلّق رئيس قسم الأوبئة في دائرة الطب الوقائي بوزارة الصحة، نضال غنيم، أن تسجيل 45 إصابة في شهرين هو أمرٌ مثيرٌ للقلق، "خاصة أننا طوال عام كامل قبل الحرب لم تسجل ربع الرقم المعلن عنه".

وأكد أنه "في حال لم تتحسن الظروف في العاجل القريب، سنكون أمام زيادة مضطربة في هذه الحالات وغيرها من الأمراض". وبالفعل، ما أن مضى أسبوعان على هذا التحذير، حتى جاء الإعلان عن ثلاث حالات وفاة لمصابين بهذه المتلازمة دفعة واحدة.

متلازمة غيلان باريه غير معدية، إلا أن خطورتها تكمن في وجود الجراثيم والبكتيريا التي وُجدت بفعل التلوث الكبير في قطاع غزة

وأضاف نضال غنيم أن متلازمة غيلان باريه غير معدية، إلا أن خطورتها تكمن في وجود الجراثيم والبكتيريا التي وُجدت بفعل التلوث الكبير في قطاع غزة، وتابع: "الفيروسات التي تُصيب الجهاز التنفسي والبكتيريا التي تُصيب الجهاز الهضمي وتُسبب إسهالاً عند الأطفال كثيرة بفعل التلوث، وبمعنى آخر فإن كل الظروف في غزة مواتية لانتشار مثل هذا المرض".

وأكد غنيم أن تكدس النازحين والتلوث البيئي من حولهم بسبب الصرف الصحي وتلوث المياه، يلعب دورًا كبيرًا في نقل العدوى، ويتضاعف هذا الخطر مع ضعف الجهاز المناعي لغالبية السكان في قطاع غزة بسبب سوء التغذية وعدم توفر الأدوية اللازمة.