Bisan

من الدلال إلى "حِمل الجبال"... الابن الوحيد في غزة

Soruce تقارير
من الدلال إلى "حِمل الجبال"... الابن الوحيد في غزة
فاطمة زكي أبو حية

فاطمة زكي أبو حية

صحافية من غزة

"ابنٌ وحيد بين بنات"، غالبًا ما يكون هذا الوصف دليلًا كافيًا على مكانته الخاصة، والامتيازات التي يحصل عليها، لكن هذا كان قبل الحرب، التي تغيّر بعدها كل شيء. فالوحيد اليوم، وحيدٌ في تحمّل المسؤولية وفي مواجهة الحياة الصعبة، ومحظوظٌ من كان له أبٌ قادر على مساعدته. وعلى مدار شهور الحرب، التي اقتربت من السنتين، دفع هؤلاء الوحيدون أثمانًا صعبة من صحتهم، ومن راحتهم، ومن طفولتهم إن كانوا أطفالًا.

أعباء متصاعدة وطفولة مسلوبة في ظل حرب الإبادة المفتوحة والمفروضة على أهالي قطاع غزة

الكثير من المُسكّنات

"الراحة ضرورية، وممنوع تعريض الركبة للحرارة"، كانت هذه نصيحة الطبيب للشاب محمد صلاح، التي تجاهلها فور عودته من المستشفى إلى البيت. اشترى الحطب في طريق العودة، كسره وأشعله، وجلس أمامه منتظرًا نضج الطعام. محمد (33 عامًا)، ابنٌ وحيد، والده في منتصف الستينيات، تعرّض لوعكة صحية خلال الحرب وخضع لعمليتين جراحيتين، لم يعد بعدهما قادرًا على مساعدة ابنه.

في بداية الحرب، نزح عدد من الأقارب إلى بيت محمد، كان يتقاسم المهام مع رجالهم، لكن بعد انتهاء نزوحهم تحمّل وحده مسؤولية أبويه وزوجته وصغاره. إذ يستهل يومه بنقل المياه من الطابق الأرضي إلى الخزانات على السطح، وفي هذا الوقت يرسل ابنه صاحب السنوات الست ليحجز دورًا في طابور المواطنين الذين ينتظرون سيارة المياه العذبة، وحين تصل يخرج مسرعًا ليملأ الجالونات، ويعود ليُكمل رفع المياه إلى الخزانات.

يأخذ البطاريات والهواتف إلى نقطة الشحن، والعجين إلى الخباز، ويشتري الحطب، ويذهب إلى السوق ويعود حاملًا المشتريات ماشيًا على قدميه، فالمواصلات منعدمة تقريبًا، وبعد إنهاء مهام البيت الكثيرة يباشر عمله عبر الإنترنت، وفي بعض الأيام يضطر للدوام في مقر المؤسسة الموجود في محافظة أخرى.

ليست ركبته فقط التي تؤلمه، فظهره أيضًا لم يعد يتحمّل الجهد المبذول، تمرّ به أيام "يلتوي" فيها من شدة الألم، حتى أن أخواته البنات حين يزرنه يُشاركن في حمل المياه إلى الخزانات دون معرفته، في محاولة للتخفيف عنه. كلّ ما يمكن أن يُخفف عن محمد انعدم تقريبًا، مثل رفع المياه للسطح باستخدام موتور يعمل بالغاز الطبيعي، فالغاز لم يدخل القطاع منذ أشهر، لذا يضطر لتحمّل الألم، ويُجدّد الأدوية بين وقت وآخر، ويتناول الكثير من المُسكّنات.

كان طفلًا

يتناول إفطاره، يأخذ مصروفه، يرتدي زيّ المدرسة... كانت هذه التفاصيل التي يبدأ بها "خالد" يومه قبل الحرب، فكيف يبدأ ابن السنوات التسع يومه الآن؟

يُذكّر أمه بتجهيز البطاريات والهواتف النقالة ليأخذها إلى نقطة الشحن، يرجع إلى البيت لحمل جالونات المياه ويملأها بمياه الشرب، ثم يعود ليملأ مياه الاستخدام اليومي، وفي الطريق يُلقي نظرة على البضائع الموجودة في السوق القريب، ويسأل عن أسعارها، ليخبر أمه التي تُحدّد بدورها المشتريات، وترسله إلى السوق مجددًا لشرائها.

بعد عودته، يبحث في الجزء المدمّر من البيت عن أخشاب لاستخدامها في الطهي، ويشرع في تكسيرها، وفي نهاية اليوم يرجع إلى نقطة الشحن لاستلام ما تركه فيها. هذه المهام ثابتة، ولكل يوم تفاصيل إضافية، وفي بعض الفترات تظهر مهام يومية جديدة. خالد هو الأخ الأصغر لخمس أخوات بنات تتراوح أعمارهن بين 11 و22 عامًا، يُحاولن التخفيف عنه بتولّي بعض المهام، خاصة أصغرهن، لكن لا يحدث هذا دومًا.

تقول والدة الطفل خالد التتر، إنها كانت تُهيّئه لمستقبل يتناسب مع ذكائه وشخصيته، لكن كل شيء تغيّر، ولا تستغني عنه في تلبية احتياجات البيت، خاصة بعد إصابة والده إثر انهيار أجزاء من أنقاض البيت عليه. فأسرتها، ككثير من سكان القطاع، استصلحت جزءًا من بيتها المُدمّر وسكنت فيه، بين الأنقاض وتحتها. وتضيف: "أتحمّل مسؤولية أغلب احتياجات البيت، حاولت كثيرًا مراعاة صِغر عمر خالد، لكن بعد إصابة أبيه لم يعد بوسعي إلا الاعتماد عليه أكثر".

وتتابع: "حتى العمل، جرّبه خالد في هذا العمر، كنت أصنع الحلوى والمعجنات وأرسله لبيعها، وذات مرة اشتريتُ بضائع لعرضها على بسطة خاصة به، ولم يتوقف عن العمل إلا بسبب شحّ البضائع والمواد الخام". تتحدث أم خالد بحسرة على حياة ابنها الضائعة، وتقول إن المشهد الذي يقتلها، على حد وصفها، هو أن يبدأ بالدراسة، فيظهر صوت سيارة مياه الشرب، فيترك دفتره ويخرج ليجلب المياه.

تبِعات كثيرة تأثر بها خالد، مثل الجروح والآلام الناتجة عن عمله مع أسرته في إزالة الركام من البيت، لكن أصعب ما حلّ به السرقة التي تعرّض لها أثناء عودته من نقطة الشحن، حيث سرق شاب منه الهواتف تحت تهديد السلاح الأبيض. ومنذ ذلك اليوم اهتزت ثقته بنفسه، وتملّكه الخوف من كل شيء، وظهرت العديد من الاختلافات في سلوكه.

تحاول أمه الحفاظ على طفولته والاهتمام بدراسته، لكن لا الواقع يساعدها أبدًا، فكلما حاولت التخفيف عنه ظهرت أسباب أخرى تمنعها من ذلك، كما حدث وقت إصابة أبيه. وتقول أم خالد: "في بداية الحرب، شاهدتُ طفلًا بعمر ابني يحمل المياه بصعوبة، عبّرتُ عن استغرابي كيف تتركه أمه لهذا العمل، فردّت علي أختي بالقول إننا لا نعرف ظروف العائلة ولا درجة اضطرار الأهل، وهذا ما أتذكره كلما طلبتُ شيئًا من خالد، لم أتخيّل يومًا أن أُكلّفه بكل هذه المهام المتعبة".

وحيدٌ بفعل الحرب

وحيدنا الثالث، لم يكن وحيدًا قبل الإبادة، كان أصغر الذكور، وأكثرهم دلالًا، طفلٌ لم يتجاوز الثانية عشرة، بنيته الضخمة مدعاة سعادة وتباهٍ لأبويه، اللذين لم يكونا يعرفان أنها ستنفعه حين تُثقل عليه الحياة. أخذت الحرب في شهورها الأولى إخوانه شهداء، ثم اختفى والده، ولاحقًا وصلت أنباء تؤكد اعتقاله، لكن لا تهمة، ولا حكم، ولا أي معلومات رسمية.

أحمد، والاسم مستعار كما يُفضل، وجد نفسه في غمضة عين رجلًا مسؤولًا عن تلبية احتياجات أمه وأخواته البنات، وكلهن أصغر منه، بالإضافة إلى جديه لأبيه. وأكثر من ذلك، هو أكبر الذكور في أسرته الممتدة التي فقدت أغلب رجالها، لذا فهو يُساعد زوجات أعمامه الشهداء والأسرى.

يقوم بكل ما يقوم به عدة أشخاص: ينقل المياه، يتسوق، يشتري الحطب ويكسره، والكثير الكثير. أحمد، الذي اقترب من عامه الرابع عشر حاليًا، اضطر إلى العمل. فبعد اتفاق الهدنة المؤقتة التي عاد خلالها النازحون جنوبًا إلى النصف الشمالي من القطاع، كانت إزالة الركام مهنة شائعة، فانخرط فيها مقابل 12 دولارًا تقريبًا في اليوم، لكنه جسده لم يتحمّل، فهو وإن بدا كبيرًا، إلا أنه طفل في الحقيقة، إذ انتشرت الآلام في أطرافه، ومنعه الأطباء من العمل، وأخبروه بلزوم الراحة، خاصة مع عدم القدرة على تشخيص حالته لتوقّف أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي.

في هذا العمر، يحمي الأهل أبناءهم، يمنعونهم من كل ما فيه شبهة خطر، لكن أحمد لا يقف عند حدود الخوف، يتحرك في أي زمان ومكان. قبل أيام، اضطر للخروج من البيت في وقت متأخر من الليل، بينما المُسيّرات تحوم فوق المنطقة بطريقة تُبثّ الرعب في القلوب، كان عليه أن يُوفّر شيئًا ضروريًا لجده، وإن لم يفعل هو، فمن سيفعل؟