خلال حرب الإبادة ضد غزة، والمستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم ينتظر الكُتّاب والمثقفون داخل غزة وخارجها أن تنتهي الحرب من أجل الكتابة عن أهوالها وتسجيل تفاصيلها بالقلم والصورة والصوت؛ فالحرب صارت أطول من انتظار نهايتها.
عن محاولات توثيق الحرب الإسرائيلية على غزة.. كتابة وتصوير ونقل رواية تحت القصف
كُتب، ومبادرات، ومعارض، وكل وسيلة يمكن أن تُسجِّل فصلًا أو موقفًا أو تحكي حكاية عن هذه الحرب، استُخدمت لتوثيق الجراح والآلام والأحلام وطقوس الحياة في غزة. وهو جهد يقول أصحابه إنه لا يُقاس البتة بحجم الألم الذي يعيشه سكان غزة، لكنهم يفعلونه من أجل أن يعرف العالم والأجيال القادمة: "ماذا فُعل بسكان غزة على مدار عام وعشرة أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية؟".
خيمة في قلب لوس أنجلوس
عندما أُصيب المصوّر والمخرج الفلسطيني إسماعيل أبو حطب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، خلال تغطية لعملية استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لبرج الغفري في غزة، أعجزته تلك الإصابة الخطِرة عن العمل في مجالٍ يحبه: التصوير.
خاض أبو حطب رحلة علاج قاسية لما يقارب العام، لكنه ما إن استعاد قدرته الجزئية على المشي، حتى عاد إلى التصوير. ويقول لـ"الترا فلسطين"، عن هذه اللحظات: "استعرت كاميرا من صديقي لفقداني منزلي وكل أدوات عملي، وبدأت أُصوّر وأنا على عكاز، حياة النزوح على البحر".
وقرر أبو حطب عدم إرسال ما يُصوره إلى الوكالات والصحف، حتى لا يذهب ما يُنتجه بين الأخبار والعناوين. ومن هنا جاءت، بمساعدة صديقه الأميركي، فكرة إنشاء منصة BYPA، كمساحة حرة تُروى من خلالها قصص الناجين والنازحين في العالم، عبر استخدام وسائل مثل التصوير، والسرد القصصي، والوسائط المتعددة. ويريد أبو حطب من ذلك – كما قال لنا قبل استشهاده – "معرفة العالم للواقع المَعيش في غزة، وفتح نقاش مباشر بين الجمهور والمُصوّر حول الرواية الفلسطينية الأصلية".

وقد كان المعرض التركيبي "ما بين السماء والبحر"، الذي قدم فيه أبو حطب شهادة حية من غزة إلى العالم، باكورة عمل هذه المنصة، حيث نُصبت خيمة المعرض في وسط لوس أنجلوس، البعيدة عن أخبار غزة. وفيها يدخل الزائر ليرى ما لا يُصدق عن حال غزة، حيث يعيش مئات الآلاف من الفلسطينيين حياة الحرب والنزوح القاسية. تُعرض الصور، ومقاطع الفيديو، والتسجيلات الصوتية الحية من داخل غزة، ويَسمع الزائر صوت الزنانة والانفجارات، ويرى الاصطفاف القاتل أمام طوابير المياه والطعام، وموقد الحطب الذي ملأ المكان بدخانه.
نجح أبو حطب في تحويل الخيمة إلى بيئة واقعية تُحاكي لحظات النزوح القسري على شواطئ غزة، حيث تمتزج أصوات أزيز الطائرات وهدير البحر مع وجوه النازحين التي تختزن قصصًا عميقة من الصمود والألم.
ويقول لنا المصور الشهيد أبو حطب: "غرقتُ في مواقع تسوق أمازون وأسواق الجاليات الفلسطينية للبحث عن أدوات فلسطينية أضعها في الخيمة. اشتريتُ صاجًا وموقدًا وقارورة ماء زرقاء و"جركل" أصفر (غالون)، وهي أدوات موجودة في كل خيمة فلسطينية".
ويضيف: "وضع رفاقي في الولايات المتحدة رمل بحر كأرضية وأكياس دقيق من المنظمات الدولية وغيرها، حتى تُشبه خيمة المعرض خيام النازحين المترامية على شاطئ بحر غزة".
بعد أيام من هذه المقابلة، استشهد المصور إسماعيل أبو حطب في قصف للاحتلال على استراحة الباقة على شاطئ مدينة غزّة، يوم 30 حزيران/يونيو.

"بخط الصفر".. يوميات الحرب على غزة
"يكتب أصحابها كلماتهم عن المخفيّ الذي لا تقوله الإذاعات في الحروب، عمّا لا يلتفت إليه السياسيون، ويعتبرونه أرقامًا قد تزيد أو تنقص، لا فرق لديهم. فيأتي الكُتّاب ليقولوا تفاصيلهم وتفاصيل جغرافيتهم الجريحة، ليقولوا المكتوب على الجدران المهدومة، والذي تُعتم عليه عدسات الكاميرات؛ لأنه لا يجذب المشاهدين".
هذا ما كتبه الشاعر والأديب خالد جمعة، تحت عنوان "روّضنا الحجارة كي تنطق أسماءنا"، في تقديمه لكتاب "بخط الصفر"، الذي صدر ضمن سلسلة كتب لدار "طباق" للنشر والتوزيع تحت عنوان "يوميّات غزة". وقد كتب فيه مجموعة من الكاتبات والكُتّاب من القطاع، عاشوا حرب الإبادة أو كان ذووهم في قلبها.
ويقول خالد جمعة لـ"الترا فلسطين" إن الكتابات اليومية تمثل تاريخًا حقيقيًا أكثر بكثير من التاريخ الرسمي، فالتاريخ الرسمي يهتم بالنتائج، أما كتابات الناس اليومية فتهتم بالتفاصيل. ويضيف: "مع الوقت تختفي التفاصيل وتبقى النتائج، لكن في حالة كتابتها وإصدارها في كتاب، فهي تبقى إلى الأبد".
اقرأ/ي: غزّة تردّ بالكتابة.. حكايات عن رفعت العرعير
ويُبين جمعة في المقدمة: "هذه ليست كتابة بالمعنى المتعارف عليه للنصوص، إنها صرخات لم تستطع أن تكون بشكلٍ آخر غير الذي هي عليه. من تحت ثقل الرواية التي تكذّب ألوان وجوهنا، وعلاقاتنا بأمهاتنا وأولادنا، بآبائنا وإخوتنا، يخرج الصوت جريحًا ربما، لكنه أكثر صدقًا وصفاءً من مطرٍ على صوّانٍ أبيض".
وفي الكتاب الذي تصدّرته مقولة الشاعر الشهيد رفعت العرعير: "إذا كان لا بد أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت لتروي حكايتي"، كتب أيضًا الروائي والكاتب حسن القطراوي، تحت عنوان "صوتُ الموت والقطة البيضاء"، فقال: "موتنا في هذه الحرب لا وداع فيه، فقط أحزان مؤقتة بانتظار حزن جديد. بعد ساعة، ذهبتُ إلى السوق حاملًا أوجاع الموت، وعدتُ حاملًا طعام الحياة. نأكل لنعيش يومًا آخر من الموت الذي لا نعرف طريقته.. نحلم أن نموت بطريقة أفضل".
اقرأ/ي: في رثاء رفعت العرعير.. هكذا ألهم جيلًا من الكاتبات
مبادرة "حكايات فلسطينية"
في عام 2020، أقدمت الصحافية والناشطة المصرية سمر دويدار على خطوة هامة تتعلق بإطلاق مبادرة "حكايات فلسطينية"، وهي مشروع تأريخ رقمي تفاعلي يهدف إلى توثيق الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لسكان فلسطين ما قبل الاحتلال.
وُلدت فكرة المبادرة عندما تسلّمت سمر من والدتها الفلسطينية، في نهاية عام 2019، كمًا كبيرًا من الرسائل الشخصية والمكاتبات الرسمية المتبادلة بين جدها، المعلم علي رشيد شعت، وأفراد عائلة شعت. إذ وصل عدد هذا الأرشيف إلى نحو 300 وثيقة و600 صورة، تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وتُوثّق حياة جد سمر في فلسطين.
ومع اندلاع حرب الإبادة الحالية، لم تستطع سمر، التي لم تطأ قدماها غزة، البقاء مكتوفة الأيدي. فقد شعرت بضرورة الفعل، ولذلك اتخذت خطوتها الأولى بعد أسبوعين من اندلاع الحرب، وقررت نقل مبادرة "حكايات فلسطينية" نحو توثيق يوميات سكان غزة خلال الحرب.
اقرأ/ي: 10 آلاف مفقود تحت الأنقاض في غزة.. الجرح المفتوح
تقول سمر لـ"الترا فلسطين": "هي ليست نقلة، وإنما امتداد طبيعي لدور المبادرة في الحفاظ على الرواية الفلسطينية من خلال أصوات الناس العاديين. المؤرخون يكتبون عن الحرب بعد أن تنتهي، يكتبون عن السياسة، وعن مواقف الدول والتسليح، وصوت الناس يكون خافتًا في تلك الكتابات".
وتتابع: "اليوم نستطيع متابعة الحرب يومًا بيوم، ولحظة بلحظة، وهو أمر استثنائي عند مقارنته بأحداث النكبة عام 1948. يمكننا أن نسمع صوت الناس بوضوح، ولدينا الأدوات التي تسمح لنا بالتوثيق بناءً عليه".
في هذه الأيام، تجوب سمر دول العالم العربي والغربي، وهي تحمل أرشيفًا تاريخيًا يشارك في المعارض الدولية، وتعرض في الزوايا المخصصة لها الرسائل والصور والمتعلقات الخاصة بالعائلات الفلسطينية. وذلك بهدف أن تعيش الأجيال الحالية الرواية الفلسطينية التاريخية، وترى الإرث الثقافي العريق للفلسطينيين، الذي يحاول الاحتلال طمسه بشتى الوسائل، وكذلك لتحقيق التواصل بين الأجيال المختلفة، خاصة بين المغتربين البعيدين عن فلسطين.

"من قلب المذبحة"
"آلاف الغارات أثبتت أننا بشر قابلون للاحتراق والاختناق والنزيف والتفتت، ويمكن معمليًا أن نموت كباقي البشر حين نتعرض لمؤثرٍ مميت. نحن نشعر بالبرد حين تلطشنا عواصف ديسمبر، وتقتلع خيامنا، وقد نتجمد أيضًا حين ننام في العراء تحت صقيع الأربعينية. ونجوع حين لا نجد ما نأكله، ونعطش حين تشح المياه، وتنهار كلاوينا تحت ضغط الماء الملوّث".
كُتب هذا النص بعنوان "من قلب المذبحة"، من الكاتبة والروائية سماهر الخزندار، مستلهمةً التفاصيل الموجعة من يوميات النزوح. فعندما اختيرت للمشاركة في كتاب "الكتابة خلف الخطوط"، الذي أطلقته وزارة الثقافة الفلسطينية وجمع فيه شهادات الكُتّاب والمثقفين من غزة، كانت سماهر، النازحة، تتواجد داخل بيت صغير مكتظ، تشارك فيه ست عائلات بأطفالها.
كتبت سماهر مشاركتها كلمة كلمة على تطبيق "ملاحظات الهاتف" بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعدم قدرتها على شحن حاسوبها. وعن هذه السردية، تقول: "ركّزت السردية على المشاعر المتولدة في تلك البيئة المضغوطة. أردت من خلالها تسليط الضوء على التفاصيل الدقيقة للمعاناة، تلك التي لا تُلتقط في الأخبار أو الإحصائيات، وكيف تترك أثرًا مباشرًا على الأفراد، فتُغيّرهم سلوكًا وموقفًا وشخصية".
وتقول سماهر عن أهمية التوثيق للحرب: "هذه المشاريع ليست مجرد توثيق للأحداث، بل تمثل عملًا وطنيًا وإنسانيًا بالغ الأهمية؛ لأنها تحفظ الذاكرة الجماعية في لحظة تاريخية حاسمة، وتُقدّم مادة أولية للباحثين والمؤرخين وللأجيال القادمة لفهم الحرب من منظور من عاشوها، لا فقط من سرديات الإعلام الرسمي".
وتضيف لـ"الترا فلسطين": "كما أنها تمنح الضحايا صوتًا، وتُعيد الاعتبار للمعاناة الفردية في ظل التعتيم والتهميش العالمي. في زمن تُختزل فيه غزة في أرقام وعناوين عابرة، تُعيد هذه المبادرات لها وجهها الإنساني الحقيقي".