Bisan

خسارة البصر بشظايا الحرب على غزة.. ألمٌ لا يُرى

Soruce تقارير
خسارة البصر بشظايا الحرب على غزة.. ألمٌ لا يُرى
مدلين خالد خلة

مدلين خالد خلة

صحفية من غزة

في خيمةٍ وُشِحت بالسواد، يجلس الشاب أسامة الجماصي، يتحسّس ما حوله، ويختزل في عقله ما تقع عليه أصابع يديه، محاولًا جاهدًا حفظ المكان عن ظهر قلب، علّه يُقلّل اعتماده على الآخرين، فيظفر ببعضٍ من حياةٍ حظي بها قبل فقده عينيه.

الجماصي، 28 عامًا، وحيد أسرته، سلبته الحرب عينيه وقلبت حياته، وتحول من شاب يعيل عائلته وشقيقاته السبع خلال الحرب، إلى فاقد للبصر. بدأ الجماصي قبل الحرب بدراسة الإرشاد النفسي في الجامعة، حالمًا بأن يُعين غيره على تجاوز ما يعانيه من أوجاع وأزمات، لكن الحرب ضربت طموحه.

قال المدير الطبي لمستشفى العيون في غزة، حسام داود في حديثه لـ"الترا فلسطين"، إن "مجموع فاقدي البصر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يقارب الـ4000 مصاب وصلوا إلى مشافي القطاع وتم التعامل معهم"

وقال أسامة الجماصي: "مع بدء الحرب الإسرائيلية، اشتدت الغارات على حي الشجاعية، فأُجبرت على النزوح إلى حي التفاح، حيث يسكن أقاربي. تأقلمت وأسرتي على الحياة بعيدًا عن منزلنا، فقمت ببناء موقد لطهي الطعام في الأرض المجاورة للمنزل، وسط انقطاع الكهرباء وشحّ الوقود".

ويُضيف في حديثه لـ"الترا فلسطين"، أنه في 19 كانون الأول/ديسمبر 2023، وبينما كان يحاول إشعال النار، هزّ انفجار هائل الحي، نتيجة صاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية استهدفت المنزل المجاور، فتطايرت الشظايا، مضيفًا: "أُصبت في رأسي إصابة بالغة، وكُسر في الجمجمة والأنف، واخترقت بعض الشظايا عيني، فأُصبت بالعمى".

وتابع: "حين نُقلت إلى المستشفى، نظر إليّ أحد الأطباء، وقال لوالدي إن حالتي ميؤوس منها"، مردفًا: "لكن معجزة صغيرة حدثت، ممرض شاب اقترب مني، وقرّر أن يعطيني حقنة دوائية أوقفت النزيف، فتغير كل شيء، وبدأت المؤشرات الحيوية تتحسّن، فحرّك الفريق الطبي، ليُجري لي لاحقًا عملية جراحية أُزيل فيها بقايا مقلتي عينيّ".

استيقظ الجماصي من تأثير التخدير وطلب كشافًا للذهاب إلى الحمام، دون أن يُدرك ما حدث له. "أنت فقدت نظرك يا أسامة"، بهذه الكلمات أدرك ما خسره نتيجة القصف الإسرائيلي.

الأمر لا يختلف كثيرًا عند الطفل محمد حجازي (7 أعوام)، فما يزال على فراشه ينتظر قدوم الطبيب ليزيل الشاش عن عينيه، ليركض خارج منزل عائلته في بيت لاهيا، ويلعب مع أصدقائه كما كان سابقًا.

ويُوضح والد الطفل حجازي ما حصل مع نجله، بالقول: "في يوم الثلاثاء الموافق 25 آذار/مارس 2025، خرج للعب مع أصدقائه أمام البيت المدمّر جزئيًا، عهده كالأيام السابقة، لا يدري أن هناك جسمًا من مخلفات الاحتلال بين الركام، على شكل قطعة معدنية تركها الجيش، كي تقتل بصمت كل من يقترب منها".

وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "ما إن مدَّ محمد يده وأمسك بتلك القطعة الغريبة حتى انفجرت به، وحدث انفجار كبير عمّ صوته الأرجاء، ليهرع الجميع نحو الصوت، ونتفاجأ بما حدث".

وتابع: "بسرعة كبيرة حملت محمد بين يدي وأخذت أركض به إلى مستشفى كمال عدوان، إلا أنه نُقل سريعًا إلى المستشفى الإندونيسي، لعدم توفر القدرات الطبية، وهناك قرر الأطباء تحويله إلى مستشفى العيون في حي النصر غربي مدينة غزة".

لم تكن إصابة الصغير هينة، بل وصفها الأطباء بأنها "بالغة الخطورة"، خضع على إثرها لعمليات جراحية، اضطر خلالها الأطباء إلى استئصال عينه اليمنى.

ولم تتوقف معاناة الطفل حجازي عند فقدان عينه اليمنى، بل أصاب الضرر عينه اليسرى، إذ أخبر الأطباء والده أن طفله بحاجة ماسة إلى إجراء عمليات معقّدة خارج قطاع غزة في أقرب وقت ودون أي تأخير، وإلا فإن احتمال إصابتها بضمور كبير جدًا. ويقول والد حجازي: "أكثر ما يؤلمنا حين يسألنا بشكل دائم عن اللحظة التي سيرى فيها مجددًا، ولا نعرف كيف نجيبه".

لم تكن الحالات السابقة إلا عينة من الواقع في قطاع غزة، والحرب الشاملة المفروضة عليه منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وقال المدير الطبي لمستشفى العيون في غزة، حسام داود في حديثه لـ"الترا فلسطين"، إن "مجموع فاقدي البصر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يقارب الـ4000 مصاب وصلوا إلى مشافي القطاع وتم التعامل معهم".

وأضاف: "مع تآكل المعدات الطبية نتيجة العدوان الإسرائيلي على مستشفى العيون التخصصي والإتلاف المتعمّد لها، أصبح الأطباء يتعاملون بالحد الأدنى من الخدمات، مع المحافظة على نظر المريض لحين انتهاء الحرب". وتابع: "لقد تعمّد الاحتلال إتلاف الأجهزة المتخصصة بعمليات العيون الدقيقة، الأمر الذي جعلنا نلجأ إلى تفريغ عين المريض بشكل كلي، على أمل تركيب عين سيليكون عند انتهاء الحرب".

وشدّد استشاري طب وجراحة العيون على أن جميع المصابين بفقدان البصر الكلي أو الجزئي يندرجون تحت مسمّى "كفيف قانوني"، وهم الأشخاص الذين يقل نظرهم عن 3 على 6، أو الشخص الذي لا يستطيع عدّ الأصابع من مسافة 3 أمتار فقط.

مع تآكل المعدات الطبية نتيجة العدوان الإسرائيلي على مستشفى العيون التخصصي والإتلاف المتعمّد لها، أصبح الأطباء يتعاملون بالحد الأدنى من الخدمات، مع المحافظة على نظر المريض لحين انتهاء الحرب
مستشفى غزة للعيون وقد توقفت العديد من حدماته، نتيجة القصف الإسرائيلي. (Photo by Anas Zeyad Fteha/Anadolu via Getty Images)

من جانبها، قالت والدة الشاب محمود أبو النور: "ابني فقد عينه اليسرى، ويعاني من مشاكل في عينه اليمنى، ولا يرى بشكل جيد على بعد خطوات بسيطة فقط"، مشيرةً إلى أن نجلها فقد عينه نتيجة قصف طائرة مسيّرة إسرائيلية، أدّى إلى خسارة عينه اليسرى، وتشوه في محيطها، وضعف في عينه اليمنى.

وأضافت أبو النور في حديثها لـ"الترا فلسطين": "كان ابني إيدي بالدنيا، يساعد الكل وما يبخل على أحد، واليوم يحتاج إلى من يساعده في أبسط الأمور". وتعود بذاكرتها إلى يوم القصف: "كان ذاهبًا إلى السوق ليشتري بعض الحاجيات للمنزل، وأثناء عودته قصفت طائرة مسيّرة مجموعة شباب كان محمود يمر من جانبهم، فأُصيب إصابة بالغة اختفت فيها معالم وجهه".

وتتابع: "بحثنا عن محمود في كل مستشفيات القطاع، وبدون أي معلومة عنه، لكنه كان على الأرض في مستشفى الشفاء، دون أن يعلم أحد بحاله أو أن يداويه طبيب، من كثرة الإصابات". وتشير إلى أنه وبعد جهد طويل، استطاعوا التعرف عليه من حذائه، وبعد ذلك قرر الأطباء إدخاله غرفة العمليات لمحاولة إنقاذ عينه اليمنى، إلا أن الشظايا استقرت داخلها.

وذكرت أبو النور أن الأطباء شددوا على ضرورة الإسراع في إجراء عملية جراحية مستعجلة لإزالة الشظية العالقة في عين محمود اليسرى، وإلا فإن التأخير سيؤدي إلى فقدانها.

وكانت وزارة الصحة في قطاع غزة قد أعلنت أن 1500 شخص فقدوا بصرهم بشكل كامل، فيما يواجه أكثر من 4000 آخرين خطر فقدانه، نتيجة النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع.

وقال المتحدث باسم الوزارة في بيانٍ صحفي، إن استمرار العدوان وتقييد دخول الإمدادات الطبية الحيوية، أدّى إلى تفاقم أوضاع آلاف المرضى، لا سيّما المصابين بأمراض العيون المزمنة، مثل "الجلوكوما" والتهابات الشبكية، الذين يعتمدون على علاج منتظم للحفاظ على أبصارهم.

وناشد المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بضرورة التدخل العاجل والسماح بدخول الأدوية والمستلزمات الطبية، وإنقاذ آلاف المرضى المهددين بفقدان نعمة البصر، مشددًا على أن استمرار الوضع الحالي يُنذر بكارثة صحية وإنسانية غير مسبوقة.