Bisan

المجاعة في غرف العمليات.. الجوع يقرر مصير الجراحة في غزة

Soruce تقارير
المجاعة في غرف العمليات.. الجوع يقرر مصير الجراحة في غزة
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

على سريرها  في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، كانت ترقد المصابة نور برهوم (26 عامًا)، بجسد هزيل، ووجه شاحب، بعدما أصيبت بقذيفة مدفعية اخترقت شظاياها جسدها الهزيل، بينما كانت نازحة في منزل أقاربها بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة.

"أحيانًا نقوم بالتبديل بين العمليات الجراحية، أو إلغاء العمليات غير الطارئة حتى يتحسن جسد المريض، أو إخضاع المصاب أو المريض لعدة عمليات جراحية"

نُقلت نور إلى المستشفى، حيث اعتقد الفريق الطبي أنها استشهدت بسبب خطورة حالتها. تقول نور لـ الترا فلسطين: "لا أذكر ما حدث لي تمامًا، كل ما أعرفه أنني خضعت لعدة عمليات جراحية كانت تستغرق الواحدة منها 12 ساعة، وعلى إثر ذلك حصلت  على 30 وحدة دم، لأعود للحياة بمعجزة، ولا زالت حالتي صعبةٌ للغالية".

لحظة إصابتها كان جسد نور قد استُنزف بفعل حرب التجويع، حيث كانت قد مرت عليها أسابيع بلا وجبة حقيقية، ولا يحتمل أي عمليات جراحية  فالأعضاء الداخلية لديها، تحديدًا الأمعاء، في حالة هشّة للغاية. يقول زوج نور، إن الفريق الطبي الذي أجرى العملية كان يأمل في معالجة تمزق الأمعاء وتقطيبها، لكن تبيَّن لهم أن الأنسجة تآكلت إلى درجة لم تعد قابلة للإصلاح، فلم يجد الأطباء مفرًا استئصال جزء كبير من أمعائها، بدل محاولة ترقيعها، لأن جسدها لم يكن يتحمل.

كانت تلك الجراحة واحدة من عدة عمليات خضعت لها نور لاحقًا، إذ بدأ جسدها ينهار ببطء، نتيجة نقص الغذاء، وفقر الدم، وفقدان البروتينات الحيوية التي يحتاجها للشفاء.

في مستشفيات غزة، أصبحت المجاعة عاملًا حاسمًا في قرارات العمليات الجراحية، ودخلت لغرف العناية المكثفة، وسط تدهور الواقع الصحي والإنساني والمعيشي نتيجة حرب الإبادة التي يستخدم فيها الاحتلال التجويع ضد المدنيين، وقد بلغت ذروتها بإغلاق المعابر في 2 آذار/مارس الماضي.

وفي حديثه لـ الترا فلسطين، يقول عز الدين شاهين، وهو طبيب مقيم في قسم التخدير والعناية المكثفة بمستشفى شهداء الأقصى "إن المجاعة أثرت بشكل كبير على المصابين وقرارت الفريق الطبي في العمليات الجراحية داخل غرف العناية المكثفة، فأحيانًا نقوم بالتبديل بين العمليات الجراحية، أو إلغاء العمليات غير الطارئة حتى يتحسن جسد المريض، أو إخضاع المصاب أو المريض لعدة عمليات جراحية".

 ويوضح الطبيب شاهين، أن غالبية المصابين الذين يصلون المستشفيات يعانون من فقر دم حاد، حيث لا تتجاوز نسبة الهيموغلوبين الـ9 غرامات، "وهذا منخفضٌ جدًا، فالطبيعي أن تكون نسبته عند الذكور أكثر من 14 وعند الإناث أكثر من 12، هذا عدا عن نقص المناعة والبروتين، الذي سببته المجاعة وسوء التغذية".

وتحدث شاهين عن إجراء عمليات لمصابين بشظايا في الأمعاء، "وفي هذه الحالات يُفترض أن يتم تقطيب الأمعاء ويترك المصاب ثلاثة أسابيع للشفاء، ولكن بسبب المجاعة لا يلتئم الجرح بل قد يؤدي إلى تسريبٍ وتسمم في الدم، ولذلك يلجأ الفريق الطبي لاتخاذ قرار آخر وهو الاستئصال". 

ويضيف شاهين أن مخاطر المجاعة لا تؤثر على القرارات الجراحية فقط، بل تؤدي إلى الموت أيضًا، مشيرًا أن مريضًا بسرطان القولون فارق الحياة بعد محاولة إجراء استئصالٍ لقولونه، لأن بنية جسده الصحية لم تحتمل العلاج الذي تقدم له، "فالمريض كان يعاني من سوء تغذية، ويفترض أن يتم تحسين صحته العامة ومناعته قبل العملية الجراحية من خلال حُقنٍ وريديةٍ من المكملات الغذائية، وتعويضه عن نقص البروتينات وفقر الدم، لكن حتى هذه المكملات غير متوفرة في المستشفيات بسبب الحصار".

ويؤكد عز الدين شاهين، أن تداعيات المجاعة على القرارات الجراحية له تأثيره على المنظومة الصحية بأكملها، لأن تأجيل العمليات لفترة طويلة، والتبديل والتأخير بينها يؤدي إلى ازدحامٍ في جدول العمليات ويولد ضغطًا على المنظومة الصحية، وإرهاقًا للكادر الصحي، وازدحام الأسرَّة، كما يزيد فترة مكوث المريض، ويخلق بيئة من التلوث، ويضاعف تدهور الوضع الصحي، أي أن التأثير السلبي يكون على سلسلة علاج المصاب أو المريض من بدايتها لنهايتها.

وفي المستشفيات تتجلى مأساة غزة بكل تفاصيلها، حيث علامات المجاعة واضحة ليس على المرضى والمصابين فحسب، بل على مرافقيهم والنازحين للمستشفيات وحتى الطواقم الطبية أيضًا: عيونٌ بارزة، أجسادٌ نحيلة، وعظامٌ بارزة، ووجوه شاحب أنهكها الجوع قبل الإصابة، والأطباء يعالجون مصابين بالجوع وليس فقط الصواريخ، ويحاولون إنقاذ من يمكن إنقاذه، إذ إنَّ المجاعة لم تعد حالة طارئة، بل واقعًا يوميًا يُعمّق جروح المصابين، ويُهدد حياتهم حتى بعد نجاتهم من القصف.

ووسط هذا المشهد كان يجلس المصاب حازم إبراهيم (39 عامًا) على كرسي متحرك أمام غرفة غيار الجروح ينتظر دوره للتغيير على جرح قدمه اليسرى. وبين طابور ملىء بالمصابين من مبتوري الأطراف، والجرحى، لم يكن جسد إبراهيم النحيل يقوى على الحركة لا بسبب إصابته فقط، بل أيضًا بسبب أمعائه الخاوية، فهو لا يجد ما يسد جوعه منذ أيام.

يقول حازم إبراهيم: "تعرضت لإصابة في ساقي اليمني بطلق ناري من طائرة كواد كابتر إسرائيلية عندما كنت أقف أمام بيتي في دير البلح، خضعت على إثرها لعدة عمليات جراحية، وحصلت على مايقارب 20 وحدة دم، وكان يُفترض أن يقوم الأطباء بتركيب بلاتين داخلي لقدمي، لكن بسبب سوء التغذية فإن عظام الساق هشة وصحة جسدي العامة ضعيفة، ولذلك اضطر الأطباء لتبديل العملية الجراحية التي كانت مقررة  واستبدالها بأخرى".

ورغم مرور سبعة شهور على إجراء عمليته، فإن جرح إبراهيم لم يلتئم، ويُبرر الأطباء ذلك بسوء التغذية ونقص العناصر الغذائية اللازمة مثل الكالسيوم والبروتين، فهو لا يتناول يوميًا سوى وجبة واحدة من معلبات الفاصولياء أو البازلاء دون كسرة خبز، وذلك لعدم توافر الدقيق في منزله. 

تأجيل العمليات لفترة طويلة، والتبديل والتأخير بينها يؤدي إلى ازدحامٍ في جدول العمليات ويولد ضغطًا على المنظومة الصحية، وإرهاقًا للكادر الصحي، وازدحام الأسرَّة، كما يزيد فترة مكوث المريض، ويخلق بيئة من التلوث 

وتؤكد هيئات أممية وإنسانية دولية أن قطاع غزة دخل في مرحلة متقدمة من المجاعة،  ويشددون أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الحالة. وتشير هذه الجهات إلى أن النساء والأطفال والرضع وكبار السن هم الأكثر تضررًا من حرب التجويع الإسرائيلية.

ويسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إنشاء منطقة لتجميع المدنيين الفلسطينيين فيها وإدخال المساعدات والغذاء إليها بالتنسيق مع الولايات المتحدة وصندوق دولي يتم إنشاؤه لهذه الغاية بالتحديد. غير أن الهيئات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة ترفض المشاركة في هذه الخطة، كونها تخالف القوانين الدولية الإنسانية، رغم الضغط الأميركي الكبير عليها.

ووصف المكتب الإعلامي الحكومي الخطة الإسرائيلية التي وصلت لمراحلها النهائية بأنها "مخيمات عزل قسري مثل الغيتوهات النازية"، مؤكدًا أن "شعبنا الفلسطيني بمكوناته كافة سيتصدى لذلك باعتباره امتدادًا للإبادة الجماعية".