Bisan

كيف صارت رسالة الطرود الغذائية نكتة موجعة في غزة؟

Soruce تقارير
كيف صارت رسالة الطرود الغذائية نكتة موجعة في غزة؟
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

في قطاع غزة المحاصر، لم تعد رسائل "توجَّه" لاستلام الطرود الغذائية تبشّر بالفرح، بل أصبحت رمزًا ساخرًا لواقع معيشي قاسٍ. بين المزاح المؤلم والمآسي اليومية، يحوّل الغزيون وجعهم إلى نكات تخفف من وطأة الفقر والحصار والحرب المستمرة، في حين تكشف أرقام المؤسسات الأممية عن كارثة إنسانية تطال الأطفال والأسر المنكوبة.

في زمن الحرب، حتى "الطرد الغذائي" صار نكتة. رسائل "توجّه" التي تُنتظر بلهفة، حوّلها الغزيون من مأساة يوميّة إلى سُخرية مؤلمة!

ما إن يظهر وائل عميرة، الرجل الأربعيني، عند مدخل حيّه، حتى يمازحه جيرانه هاتفين: "توجّه أيها البطل.. توجّه أيها البطل!"، فيضحك وائل وهو يمرر إلى بيته طردًا غذائيًا يعرف في غزة باسم "الكابونة".

الطرود الغذائية... من نجدة إلى سخرية يومية

وبينما ينشغل أطفاله بتفقد محتويات الطرد، يخرج وائل حاملاً ابنه الرضيع الباكي، ويمزح أمام الجيران بأن بكاء الطفل سببه خلوّ الطرد من الحفاضات والحليب.

هكذا، يتعامل الغزيون مع رسائل التوجّه لاستلام الطرود، التي تصلهم عبر رسائل نصيّة قصيرة تحمل لهم "فرصة" للحصول على ما يسُدّ بعضًا من رمقهم في ظل الانهيار الاقتصادي والمعيشي الحادّ.

ورغم قسوة الوضع، لا تفارق السُّخرية أحاديث السكان، حتى في حديثهم مع صاحب محل الشحن بالطاقة الشمسية عن وصول رسالة "توجّه" أم لا.

ضحك مرير يغلّف حياة العاطلين

محمود (44 عامًا)، كان يستأجر محلًا صغيرًا لحياكة وكيّ الملابس، غير أنّه خسر مصدر رزقه بعد نزوحه بسبب الحرب، وقد بات يقضي أيامه بين تعبئة المياه وجمع النفايات، منتظرًا رسالة "توجّه" كما ينتظر الغزيون بصيص أمل.

وحين يمر محمود في طريقه نحو السوق على محل شحن يتوسّط حيه الكائن في مخيم الشاطيء غرب مدينة غزة، يسأل الرجل عن حال هاتفه الذي تركه للشحن على الطاقة الشمسية في ظل انعدام مصادر الطاقة الأخرى فيقول :"في توجّه؟" ثم يتبادلا النكتة والضحك حول الطرود الغذائية.

يحكي لـ"الترا فلسطين" أنّه يعيل أربع بنات، ولم يعد أمامه سوى انتظار الكابونات. ويقول: "حتى النكتة حول "رسائل التوجّه" صارت وسيلة لتخفيف القهر".

تكلفة المواصلات تفوق أحيانًا قيمة المساعدات التي يحتويها الطرد الغذائي (الكابونة)

يقول إنّه يضطر إلى إرسال ابنته جنى (9 أعوام) إلى محل الشحن يوميًا لسؤال صاحب المحل عمّا إذا وصلت رسالة "توجّه" على هاتفه. فيردّ صاحب المحل ضاحكًا "لا والله ما وصلت".

ويضيف بأسى: "أحيانًا، تكون كلفة المواصلات لاستلام الطرد تساوي قيمته أو تتعداها".

أيتام غزة... ضحايا الحرب وخيبات الطرود

صابرين (35 عامًا)، أرملة فقدت زوجها في الشهور الأولى للحرب، تلقّت رسالة لاستلام كفالة أيتامها الثلاثة من منطقة النفق شمال القطاع، بينما تسكن هي في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزة.

تقول صابرين لـ الترا فلسطين: "كان عليّ قطع أكثر من 17 كيلومترًا، وسط شح الوقود وندرة وسائل النقل".

وفي ظل ظروف مواصلات منهكة للغاية في غزة وتستغرق وقتًا مضاعف بسبب قطع الاحتلال إمدادات الوقود، تستعين صابرين بأحد أقاربها في شمال غزة لاستلام أي طردٍ نيابة عنها. المفارقة، أنّ موعد استلام طردها الأخير تزامن مع إصدار الاحتلال أوامر إخلاء لمناطق في الشمال.

صابرين: عمّتي رفضت استلام الطرد نيابةً عنّي، قائلة: أروح أستشهد عشان توجّه؟ [طرد]

وقبل أن تعرف صابرين بأمر الإخلاء، طلبت من عمّتها المقيمة في شمال غزة الذّهاب لاستلام الطرد نيابة عنها. فقابلتها الأخيرة بمزاح ساخر: "أروح أستشهد عشان [رسالة توجّه؟] مش حلوة!".

خسرت صابرين الطرد الضروري بسبب أوامر الاحتلال بالإخلاء في ذات اليوم، بينما يعاني أطفالها من شح المواد الغذائية والملابس.

ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأيتام في غزة 39,384 طفلًا منذ بدء العدوان، بينهم 17,000 فقدوا والديهم، واصفًا ذلك بأنّه "أكبر أزمة يُتم في التاريخ الحديث"، فيما حذرت منظّمة "اليونيسيف" من كارثة إنسانية تهدد مليون طفل بسبب الحصار.

نكتة "التوجّه"... وسيلة للبقاء

في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، خرجت فاطمة (32 عامًا) من بيتها لاستلام طرود غذائية، لتنهال عليها طلبات الجارات بحمل طرودهنّ أيضًا، لعدم استطاعتهنّ دفع أجرة المواصلات.

تحكي فاطمة لـ"الترا فلسطين" ساخرة: "اضطررت للعودة على عربة كارو (يجرّها حمار)، ومشهد جلوسي وسط الطرود كان مادة مزاح بين الجارات لأيام".

وهكذا تحوّلت رحلة استلام المساعدات من حاجة ملحّة إلى مساحة للتندر على المآسي اليومية.

النكتة ملاذ نفسي في وجه الحصار

يُوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الأقصى في غزة، د. درداح الشاعر، أن النكتة تُستخدم كوسيلة للتعبير عن الواقع السياسي، النفسي، الاجتماعي، الاقتصادي، وحتى الأمني. وبما أن هذا الواقع يُوصف بالمرير في غزة، يجد السكان في موضوع استلام الكابونة فرصة للتنفيس عن حالة الاحتقان والتوتر التي يعيشونها، إذ تعكس النكتة عدم رضاهم عن هذا الواقع على الإطلاق.

درداح الشاعر: الغزيون يسخرون من الجوع لأن البكاء لم يعد يكفي

ويُضيف في حديثه لـ الترا فلسطين أن هذا التنفيس يمنح الغزيين شعورًا مؤقتًا بالراحة، خاصة أن النكتة غالبًا ما تتركز في مجالي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بعيدًا عن السياسة والأمن. وأوضح قائلاً: "المجال الاجتماعي والاقتصادي يُعد أرحب لاستخدام النكتة للتعبير عن المعاناة، والكبد، والفقر الذي يثقل كاهل المواطن في غزة".

ويشير الأكاديمي درداح الشاعر إلى أن النكتة تُساهم في تحقيق نوع من التخفيف النفسي، وإن كان مؤقتًا، نظرًا لما تمتلكه النفس البشرية مما يُسمى بـ"القابلية للفكاهة"، التي تهدف إلى تخفيف الضيق والتوتر النفسي.