منذ عودة إبراهيم راضي (43 عامًا) إلى مدينة غزة في أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، بعد رحلة نزوح قاسية، وهو يواجه خطرًا محدقًا يلاحقه هو وأبنائه الأربعة وزوجته في العيش على ما تبقى من أنقاض منزله في حي النصر غرب مدينة غزة.
يضطر العديد من الغزيين للعيش في منازلهم الآيلة للسقوط، رغم تحذيرات المهندسين والمقاولين وجهاز الدفاع المدني من العيش داخلها، إلا أن عدم وجود بديل مناسب دفعهم لهذا الخيار الصعب
وعلى مساحة صغيرة داخل غرفة مثقوبة الجدران ويلفها السواد من كل جانب، يعيش راضي تحت سقفِ منزله المائل رغم تحذيرات جيرانه من إمكانية تساقط كتله الخرسانية أو الأعمدة الآيلة للسقوط.
يجلس راضي عازم أمام حطام منزله الذي كان يتكون من أربعة طوابق، وببالغ الحسرة يقول: "انهالت علينا الأحجار قبل أسبوع وهرعنا لإنقاذ ابني محمد الذي سقط عليه بعض الحجارة، لكن عناية الله أنقذته مما كنا نخشاه".
ورغم خشيته من تكرار ما حدث، إلا أن راضي عازم على البقاء في المنزل مع قيامه ببعض الإصلاحات، "فما البديل وأين سأسكن في ظل انعدام كل الخيارات أمامنا؟!" يسأل عازم.
ويضطر العديد من الغزيين للعيش في منازلهم الآيلة للسقوط، رغم تحذيرات المهندسين والمقاولين وجهاز الدفاع المدني من العيش داخلها، إلا أن عدم وجود بديل مناسب دفعهم لهذا الخيار الصعب.

وتزداد مخاطر هذه المنازل نتيجة وقوعها في مناطق مكتظة بالسكان وعلى شوارع مأهولة بالمارة أو بين الأسواق والمدارس.
انعدام البدائل
يقول حسن مخيمر (35 عامًا) من مدينة خان يونس، إنه ذاق مر العيش في الخيام لأكثر من 6 أشهر، حتى عاد لما تبقى من منزله المدمّر، واستطاع إصلاحه جزئيًا إذ لم يجد أي حائط خارجي يستره في منزله.
ويضيف حسن مخيمر: "وفَّرتُ بعض الأخشاب وعوازل المياه البلاستيكية والنايلون وأغلقت الجدران المنهارة، وحاليًا أسكن مع عائلتي رغم عدم توفر أي مقومات للعيش أو وجود أي بديل مؤقت".

وبكثير من الأسى على ما وصل إليه حاله، يتابع: "أسمع في بعض الأحيان صوت طقطقة الطبقات الاسمنتية، وخلال موجات المنخفضات تتطاير ألواح الصفيح من المنازل المجاورة، وفي بعض الأحيان تتدفق علينا مياه الأمطار فتزداد معانتنا أضعافًا مضاعفة".
ورغم قلق الشاب المتزايد من تساقط الحجارة عليه، إلا أن أكثر ما يخشاه هو حياة الأطفال الذين لن يتحملوا أي جسم قد يسقط عليهم مهما كان صغيرًا.

وتواجه البلديات ووزارة الأشغال العامة ومديريات الدفاع المدني نقصًا حادًا في الإمكانيات الضرورية للتعامل مع الكتل الخرسانية الكبيرة، وتهيئة هذه البيوت الآيلة للسقوط للعيش المؤقت.
حياة على حافة الانهيار
يقول المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه، إن عدم دخول كميات مناسبة من الخيام وعدم دخول المنازل المتنقلة يدفع السكان للجوء للسكن في منازلهم الآيلة للسقوط وغير السليمة من الناحية الإنشائية.
وأضاف النبيه في حديثه لـ"الترا فلسطين" أن المواطنين اضطروا للعيش في هذه المنازل بسبب قلة المنازل للسكن وتضرر معظم المنازل في القطاع وعدم وجود بدائل في مراكز الإيواء أو المخيّمات.
ورغم جهودهم الحثيثة، إلا أن البلديات كما أشار النبيه غير قادرة على إزالة كل الركام بسبب تدمير أكثر من 85 في المئة من معدات البلدية الثقيلة والمتوسطة، وفتح الشوارع وتسهيل وصول المواطنين لمنازلهم.
وأشار عاصم النبيه إلى أن الظروف الجوية وتقلبات أحوال الطقس تساعد على زيادة المخاطر، بما يشمل انجراف التربة بسبب مياه الأمطار وتسرب مياه الصرف الصحي لتلك المنازل بفعل دمار البنى التحتية.
وتابع النبيه قائلاً: "ناشدنا المواطنين أكثر من مرة بضرورة الانتباه جيدًا ومراعاة عدم السكن في تلك المنازل الآيلة للسقوط وتوجيههم لأخذ أقصى درجات الحيطة والحذر عند التنقل بين المنازل التي تعرضت للقصف".
وبشكل متكرر، يطالب جهاز الدفاع المدني ووزارة الأشغال العامة في قطاع غزة المواطنين النازحين داخل المباني والأبراج السكنية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي سابقًا، وتصنف بأنها خطرة بضرورة إخلائها، والتوجه إلى مراكز إيواء وأماكن سكنية آمنة.
أداة للتهجير
ومع استئنافه لحرب الإبادة الجماعية، عاد جيش الاحتلال لتدمير المنازل والمربعات السكنية في قطاع غزة، وأحدث هذه الهجمات كان على مربع سكني كامل في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، ما أدى لاستشهاد 36 شخصًا غالبيتهم من النساء والأطفال.
وتؤكد مها الحسيني، الباحثة بالمركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن سياسة هدم المنازل وتدمير البنى التحتية في قطاع غزة لم تكن بهدف تدمير فصائل مسلحة أو استهداف أفراد بعينهم، بل جزءًا من خطة إسرائيلية معلنة بجعل غزة مكانًا غير قابل للعيش، وهو أيضًا أداة من أدوات الإبادة الجماعية وشكلًا من أشكال العقاب الجماعي للمدنيين.
وأضافت الحسيني، أنه منذ اليوم الأول لحرب الإبادة، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تحويل أحياء سكنية بالكامل إلى ركام، وهناك العديد من التصريحات التي أدلى بها جنود وضباط إسرائيليون لاحقًا اعترفوا فيها بأن الأوامر كانت إلحاق دمار شامل بالمباني والبنى التحتية المدنية.
وتابعت مها الحسيني قائلة: "رأينا كيف عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي مثلًا إلى تكثيف القصف والتدمير في شمال غزة قبيل دخول الهدنة حيّز التنفيذ، وكان واضحًا بأن ذلك يأتي ضمن سياسة جعل غزة غير صالحة للسكن، وكسر إرادة السكان، وفرض التهجير القسري عليهم من خلال حرمانهم من حقهم في السكن وبالتالي دفعهم للنزوح مرة أخرى للجنوب أو الهجرة خارج قطاع غزة".
وشددت الحسيني أن جميع هذه الممارسات تخالف القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وتشكل فعلًا من أفعال الإبادة الجماعية كونها تأتي في إطار تدمير قطاع غزة وتدمير الفلسطينيين بصفتهم هذه، كما تشكل جريمة ضد الإنسانية كونها تأتي في سياق سلسلة من الجرائم الأخرى، كما تعد جريمة حرب ضد السكان المدنيين.
وعلى مدار أسابيع الهدنة، حتى انهيارها، واصل جيش الاحتلال التنصل من التزاماته في البروتوكول الإنساني المنصوص عليه ضمن اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، بما في ذلك إدخال المعدات الثقيلة والجرافات والكرفانات إلى قطاع غزة لإزالة الركام والبحث عن المفقودين وتوفير أماكن إيواء مؤقتة للسكان.