بين غمضة عين وانتباهتها، وجد الشاب ساري قدري وخالته الأربعينية أنفسهم في الشارع، بعد أن أجبرهما قرارٌ من محكمتي بداية وصلح نابلس على إخلاء منزلٍ يسكنانه في منطقة رفيديا بمدينة نابلس.
تعود حيثيات قضية ساري لثلاث سنوات مضت، عندما سكن الشاب مع جدته وخالته المريضتين لخدمتهما ومواكبة عمله في أحد المطاعم بمدينة نابلس، في منزلٍ قديمٍ ورثت خالته استئجاره من والديها منذ ستة عقود.
لم يعلم ساري وخالته المريضة بوجود دعوى إخلاء ضدهما، وفجأة وجدا أنفسهم في العراء بقرار قضائي
بعد وفاة جدته قبل ثلاث سنوات، رفع أصحاب المنزل دعوى على ساري يطالبونه بإخلاء المنزل، بحكم أنه ساكن "غير شرعي"، وقد بُلِّغ الشاب بقرار المحكمة بزيارة مأمورها له في المنزل، فاستلم ساري التبليغ ووقع عليه ثم تابع قضيته عبر عدة جلسات ليتنازل بعدها الطرف المشتكي عن القضية، لأن ساري "ضيفٌ وليس مستأجر".
اقرأ/ي أيضًا: الرسالة الحقوقية.. تنمير أم تغيير؟
يوم الخميس 1 آب/أغسطس الجاري، حضرت إلى المنزل الشرطة القضائية رفقة صاحب المنزل وأولاده ومأمور المحكمة ومحامي العائلة، وأجبروا ساري على الإخلاء، وقالوا إنه إذا أراد معرفة سبب ذلك فعليه مراجعة المحكمة، "وكل شيء حدث بشكل غريب ومستهجن" يقول ساري.
إخلاء جديد
ويضيف أن قرار الإخلاء كان سليمًا، ولكن حيثيات القضية التي رفض المحامي إطلاعه عليها وأخبره أن ذلك يكون في المحكمة لم يكن يعرف بها ولم يطِّلع عليها. ينفي ساري كذلك أن يكون قد استلم أي تبليغ هو وخالته يفيد بإخلاء المنزل، "وإذا كان مأمور المحكمة حضر ولم يجدني فلماذا لم يشعر أحد من الجيران أو غيرهم بذلك؟".
ويتابع ساري، "مأمور المحكمة ورجال الأمن استغربوا من وجودي في المنزل وادعوا أنه وحسب ما لديهم من معلومات -لا أعرف كيف آلت إليهم- أني هاربٌ في إسرائيل"، فأجابهم أنه ليس هاربًا، بل يعيش عند خالته المريضة، ويعمل في مطعم لا يبعد عن منزلها سوى أمتار قليلة".
تم تسجيل ساري قدري في المحكمة على أنه هاربٌ إلى "إسرائيل"، رغم أن محامي العائلة المدعية يراه باستمرار، وكان في مأتم لهم
ويؤكد أن محامي أصحاب المنزل يراه أسبوعيًا في المطعم، كما شارك في مأتم وجنازة تخص أصحاب البيت من وقت قريب، "فكيف أكون هاربًا لإسرائيل؟".
اقرأ/ي أيضًا: إنهم يخشون إصلاح القضاء!
ويتساءل ساري حول كيفية رفع الدعوى ضده وإصدار أمرٍ بإخلائه شخصيًا المنزل رغم أن المستأجر خالته وهي المعنية بالموضوع، مضيفًا، "حضورهم للإخلاء كان في وقت حرج حيث كان دوام المحكمة قد أوشك على الانتهاء، وعليَّ تنفيذ الإخلاء قبل الساعة الثالثة مساءً"، فاضطر لاستئجار عمال لإخراج أثاثه، بعدما أخرج أصحاب المنزل الأثاث للخارج.
رد محامي الخصم
ما يؤكده ساري بعدم تبليغه، ينفيه نايف عاشور محامي العائلة المدعية، بناءً على ما تقدَّمَت به لديه من معلومات من ادعاء موكله وما قاله محضر (مأمور) المحكمة، حيث لم يرجع التبليغ في الجلسة الأولى بينما رجع في الثانية والثالثة والرابعة لعدم وجود أحد في المنزل، ثم في الجلسة الخامسة كان الرد على التبليغ -حسب المأمور- بأن المدعى عليه يقيم ويعمل داخل الخط الأخضر.
حسب نص المادة 20 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الساري المفعول، يبلغ في الجريدة الرسمية وفي آخر محل إقامة له وعلى لوحة إعلانات المحكمة، وبعد ذلك المحكمة تسير بإجراءات المحاكمة وكأنه موجود أمامها، وهو ما يسمى "التبليغ الحضوري".
محامي أصحاب المنزل: لم نجد ساري في منزله وخالته انتقلت إلى سلفيت
ويقول عاشور، إنه وبناءً على ذلك تابعوا إجراءات الدعوى حتى نهايتها، "وبعد صدور الحكم النهائي ضد المشتكى عليه يذهب المحضر ليبلغه القرار، وعندها لم يجده في المنزل، ومرة ثانية قال المأمور إنه داخل الخط الأخضر، وأعيدت الكرة مرات أخرى ووفق القانون، كما مضت مدة الاستئناف والمقدرة بثلاثين يومًا من تاريخ النشر في الجريدة، وهو ما يوجب تنفيذ القرار بعد ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: سقوطٌ مُدوٍ للتعليم القانوني في تعيين قضاة
ويؤكد المحامي عاشور أنهم يتعاطون مع ما يصدره مأمور المحكمة باعتباره موظفًا رسميًا ويُعتد بكلامه، "فهو يتعامل مع وقائع وينقلها لملف القضية بناءً على شرح المحضر على ورقة التبليغ الرسمية التي لا يطعن بها إلا بالتزوير، كما أنه لا يمكن السير بملف أي قضية قيد أنمله، ما لم يصل التبليغ لصاحبه أو يمر بهذه المراحل".
ويُبين عاشور، أن موكله أبلغه أن لا يوجد أحدٌ من أصحاب الشأن (خالة ساري) في المنزل، وأن ساري "مقيمٌ غير شرعيٍ في العقار"، فهو لا يرث جده لأمه الذي سكن في المنزل "دون عقد إيجار"، أما خالته فانتقلت للسكن في سلفيت، وأصحاب العقار طالبوه بالخروج لكنه رفض ذلك، وكان "يُماطل" في الاستجابة لهم، وفق ما قاله أصحاب المنزل لمحاميهم.
ينفي ساري هذا الادعاء، ويؤكد أن خالته تُقيم في المنزل وتذهب من حين لآخر في زيارة إلى أخواتها في سلفيت، ولا تستمر هذه الزيارات أكثر من ثلاثة أيام، مضيفًا، أنها قبل أيام فقط من إخلائهما كانت موجودة في المستشفى للعلاج، كونها تُعاني من عدم انتظام دقات القلب، "وهناك تقارير طبية تُثبت ذلك".
نص القانون
عالج القانون عبر نصوص أصول المحاكمات التجارية والمدنية الفلسطيني رقم 2 لسنة 2001 جميع حالات التباليغ، بما فيها تبليغ الشركات الموجودة أساسًا في بلدٍ آخر ولها مقرٌ في أي من المدن الفلسطينية.
ورغم ذلك يرى عاشور أن المتظلم يمكنه أن يتواصل مع القضاء لتحصيل حقه، وأن ما حصل قرار محكمة وجب تنفيذه.
ساري قدري: لدي شهودٌ على وجودي الدائم في المنزل، وخالتي لا تذهب إلى سلفيت إلا في زيارات قصيرة
ويرد ساري بالقول انه لا يعلم أصلاً أن هناك دعوى ضده، وكأنه لا ينفي فقط تلقيه تبليغًا من المحكمة أو علمه به، وإنما يدحض أساسًا كل مجرياتها، ويؤكد أن لديه شهودٌ على وجوده الدائم في المنزل من الجيران وأصحاب المنزل أنفسهم والمطعم الذي يعمل به، ومحامي خصومه الذي يراه دومًا هناك.
ولا ينفي المحامي معرفته بساري، ولكنها ليست شخصية "بالوجه" وليس بينهما أية علاقة، وأنه يتعامل مع ملفاتٍ وأوراق لا مع أشخاص، كما يعرفه باسم سري وليس ساري.
التبليغ سيد الموقف
من جانبه يوضح المحامي إسحق برقاوي، أستاذ القانون في جامعة النجاح، أن التبليغ ضرورةٌ لا تنعقد الخصومة إلا به، ولا يمكن اتخاذ أي إجراءٍ قضائيٍ أمام المحكمة المقامة إلا بالتبليغ، وأنه إذا لم يبلغ المدعى عليه قانونيًا تبقى الدعوى تراوح مكانها ولا يسار بها.
ويؤكد ذلك أهمية دور المحضِر المنوط به إيصال التبليغ للعنوان المطلوب، وأن أية مخالفة لذلك كعدم إيصال التبليغ أو إتلافه أو غيَّر في حيثياته كأن يكتب أن المدعى عليه استلم التبليغ وهو لم يستلمه، يكون المحضر قد ارتكب "جريمة التزوير"، باعتباره موظفًا رسميًا وكل ما يكتبه يجب أن يكون صحيحًا وحقيقيًا.
يجب إرسال تبليغ المحكمة من خلال 20 طريقة، وإذا لم يتسلم المدعى عليه التبليغ يُنشر علنًا كآخر الوسائل والإجراءات
ويُبين برقاوي، أن المحضر يمكن أن يستقي معلوماته من الأشخاص المحيطين بالمدعى عليه كذويه أو جيرانه إذا لم يجده، ويعرف عبرهم أنه غير موجود في المكان أو هجره أو أي شيء من هذا القبيل، فحينها لا يكون مزورًا، فهو ينقل في شروحات التبليغ واقع الحال الذي رآه وسمعه بعدما تعذر الوصول للمدعى عليه.
ويضيف، "إذا تعذر التبليغ شخصيًا أو بالطرق القانونية التي تزيد عن 20 طريقة، يتم التبليغ بالنشر كآخر الوسائل والإجراءات، ويكون بثلاث طرق متزامنة بين النشر في الجريدة وآخر مكان إقامة للشخص المقصود وفي لوحة إعلانات المحكمة".
ويؤكد برقاوي أن تعاطي المحكمة مع الدعوى بعد كل هذه الإجراءات هو أمرٌ قانونيٌ ولا غبار عليه، "لأنها تعاملت بوقائع مثبتة عبر شروحات المحضر وحيثيات ملف الدعوى كاملة".
وبين هذا وذاك لن يستكين ساري وخالته، وقال إنه سيقوم بمتابعة ملف القضية بعد الاطلاع ومحاميه على حيثياتها كاملة وما آلت إليه من قرارات.
اقرأ/ي أيضًا:
مهور غزية.. في العقد مقبوض وعلى الواقع "لما تُفرج"