بيسان

بسبب الإبادة.. أجداد وجدَّات في غزة يعودون لأدوار الوالدين

المصدر
بسبب الإبادة.. أجداد وجدَّات في غزة يعودون لأدوار الوالدين
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

سبعون عامًا انقضت من عمر فايزة عليوة، عاشت فيها مراحل تغوُّل الاحتلال الإسرائيلي ومأساة البلاد منذ "النكسة" إلى الإبادة الجماعية، لتجد نفسها بعد هذه السنين تعود إلى أدوار الأمومة مرة أخرى مع ستة وثلاثين حفيدًا، هم أبناء أبنائها وبناتها الخمسة الذين استُشهدوا في الحرب.

تعيش عليوة مع أحفادها في خيمة مهترئة على أنقاض منزلها شرق الشجاعية، ويعيش معهم أيضًا زوجها المسن.

"الأيتام الذين يعيشون في رعاية أجدادهم يعانون غالبًا من قلق الانفصال والخوف من الفقد مجددًا، لأن الطفل الذي فقد والديه يعيش في حالة ترقب دائم عندما يرى جدته أو جده يمرض أو يتعب، فيخاف أن يفقدهما أيضًا، وهذا يولّد توترًا مزمنًا"

الجدة أم الأيتام

تقول عليوة: "كنا نازحين جنوب القطاع، وبعد وقف إطلاق النار عدنا إلى بيتنا، فلم نجد إلا الركام. لا أملك ثمن استئجار أرضٍ جديدة أو منزل، فقررت البقاء هنا رغم الخطر مع أحفادي الأيتام".

وبالنسبة للجدة عليوة، الحرب ما زالت مستمرة، فهي تعيل أحفادها، وطائرات الاحتلال لم تتوقف عن إطلاق نيرانها حولهم، فضلاً عن انقطاع الماء والكهرباء وعدم توفر مصادر طاقة بديلة، ما يجبرها على عبور مسافات طويلة يوميًا إلى وسط غزة لجلب المياه. تقول: "أخرج وقلبي يغلي خوفًا عليهم. هم أمانة في رقبتي وأنا أعيلهم".

وتضيف: "اعتدنا أن يكون الأحفاد عكّازات لأجدادهم، أما أنا فمضطرة أن أكون عكازهم رغم سني الكبير ومرضي"، مشيرة إلى أن أكبر أحفادها لم يتجاوز السادسة عشرة، وأصغرهم عمره شهر ونصف. تواصل حديثها: "أواجه صعوبة في تأمين الحفاضات والحليب للرضيع، وأشعر بعجز كبير عندما يستمر في البكاء. أتذكر أمه، ابنتي نائلة، وأبكي معه، فلا حيلة لدي".

فايزة عليوة

لا تملك فايزة سوى خيمة واحدة لها ولكل أحفادها. وأمام نقص الخيام والفراش والأغطية، ينام كل ستة أطفال تحت غطاء واحد وعلى فرشة واحدة. وبينما تراقب فايزة حلول الشتاء وأمطاره ورياحه تقول: "هذا عبءٌ يفوق قدرتي".

وحين يُقبل الليل وتسكن أصوات القصف من حولهم، تنهال عليها أسئلة أحفادها الصعبة: "وين ماما؟ وين بابا؟". فتجيب: "هم في الجنة". ورغم كل ذلك، تشد الجدة على يد أحفادها الصغار، محاولة منحهم ما تبقى من دفء قلبها المرهق. ومع كل يومٍ يمر، تكبر خيمتها لا بقماشها، بل بمن فيها، وبضحكاتهم التي تمنحها الأمل.

أكثر من 70 ألف شهيد سقطوا في قطاع غزة منذ إطلاق إسرائيل حرب الإبادة قبل أكثر من عامين. يضاف لهم آلاف المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم بعد. هذا العدد الهائل من الضحايا أعاد تشكيل البنية الاجتماعية للأسر الفلسطينية، ومن ذلك رحيل آباءٍ وأمهاتٍ ونجاة أبنائهم، ليحمل أجدادهم عبء إعالتهم في ظروف صحية ومعيشية وإنسانية مأساوية.

وتشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن نحو 57 ألف طفل في قطاع غزة باتوا أيتامًا، بعد أن فقد 40 ألف طفل أحد الوالدين أو كليهما. وتقدر وزارة التنمية الاجتماعية في غزة عدد الأيتام قبل الحرب بـ 17 ألف طفل، وتؤكد أن هذا الرقم تضاعف ثلاث مرات في عامين من الإبادة الجماعية.

الجد بائع الخبز

وفي مخيم النصيرات وسط غزة، مشهدٌ آخر من المأساة ذاتها، حيث يبيع عبد الحي البيومي (73 عامًا) بقايا الخبز الذي يحصل عليه من الناس مقابل مبالغ زهيدة، بعد أن كان يومًا تاجر أدوات كهربائية يملك متجرًا يقدر رأس ماله بأربعين ألف دولار، لكن الحرب لم تُبقِ له شيئًا.

تعرض ثلاثة من أبناء البيومي لإصابات خطيرة خلال الحرب، مما أفقدهم القدرة على العمل وإعالة أبنائهم، ولم يكن أمام الجد السبيعي سوى البحث عن أي مصدر دخل لإعالة 22 فردًا من أحفاده وأبنائه المصابين وزوجاتهم وابنته أيضًا وأطفالها.

"بيتنا دُمر، وأولادي أُصيبوا بجروح خطيرة أثناء محاولاتهم الحصول على الطعام من مؤسسة غزة الإنسانية في نتساريم. وهكذا أصبحت أنا المسؤول عنهم وعن أبنائهم كلهم، في حين أني مسن وبحاجة لمن يرعاني" يقول الجد عبد الحي.

ويضيف: "يساعدني أحيانًا حفيدي الصغير ذو الأحد عشر عامًا، لكنه هو الآخر مصاب في رأسه من آثار القصف، وبالكاد نحصل على 100 شيكل في الأسبوع. لكن لا خيار آخر فالبيت ممتلئ بالصغار ولا أحد يرعاهم سواي".

عبد الحي

ورغم الدمار وكبر سنه، يقف عبد الحي يوميًا في وجه الريح والفقر، يحمل الخبز بيد مرتجفة ويقول بابتسامةٍ صغيرة: "ما زلت أبيع لأجل أحفادي، ليس لأجلي. إنهم ينتظرونني بأمعاء خاوية، وأنا لن أتركهم".

الحرب تفاقم أعداد الأيتام

وبحسب تقديرات منظمات إنسانية محلية، فإن المئات من كبار السن في قطاع غزة باتوا يعيلون أحفادهم بعد فقدان أحد الوالدين أو كليهما، أو إصابة رب الأسرة. كل ذلك وسط ظروف غير صالحة للحياة: خيامٌ مؤقتة، منازل مدمرة، مراكز إيواء، ندرة في الغذاء والماء، وأمراض الشيخوخة التي لا تجد دواء.

وتقول الأخصائية المجتمعية إسراء لبد إن الحرب أعادت تشكيل موقع كبار السن في المجتمع الفلسطيني في غزة، بعدما كان المجتمع ينظر إليهم على أنهم أشخاص بحاجة للرعاية،  مما يعكس عمق الأزمة الاجتماعية بعد الحرب.

وتضيف لبد: "نحن أمام جيل من الجدات والأجداد الذين لم ينعموا بشيخوختهم كما يجب، بل يقضونها في معركة بقاء متواصلة، تحولوا فيها إلى خط الدفاع الأخير عن حياة أحفادهم الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما، للحفاظ على العائلة". وتابعت: "حتى الوصاية القانونية تتيح للجد أيضًا تحمل مسؤولية أحفاده بعد استشهاد ابنه".

وترى أن تحول الجد أو الجدة إلى معيل في ظروف قاسية في غزة يولد شعورًا بالعجز والضغط النفسي المستمر، خصوصًا عندما يشعر أنه لا يستطيع تلبية احتياجات الأطفال.

وتوضح أن الأثر النفسي والمجتمعي يمتد للأحفاد، فالأيتام الذين يعيشون في رعاية أجدادهم يعانون غالبًا من قلق الانفصال والخوف من الفقد مجددًا، لأن الطفل الذي فقد والديه يعيش في حالة ترقب دائم عندما يرى جدته أو جده يمرض أو يتعب، فيخاف أن يفقدهما أيضًا، وهذا يولّد توترًا مزمنًا، ويؤثر على نموه النفسي والاجتماعي.

وتؤكد لبد أن نسب الأيتام المتزايدة ممن يعيشون اليوم في كنف الأجداد أو العمات والأعمام، وفي ظل غياب المؤسسات الرسمية الداعمة، يتحول من عبء إلى مسؤولية مجتمعية تضغط على النسيج الأسري بأكمله.