في منزل نصفه من الباطون والنصف الآخر من الأسبست، تجلس السيدة "هند" - اسم مستعار - تراقب باب المنزل وكلها أمل ألا يعود زوجها اليوم، علها تستريح من الأذى النفسي والجسدي الذي يسببه لها، لكن ما هي إلا دقائق حتى طرق الباب وبدأت طرقات قلبها تتسابق، فالمعجزة لم تحدث وهي مضطرة لعيش يوم آخر من مأساتها المفتوحة.
لاحظت هند أبو نجيلة في زياراتها إلى مخيمات النزوح آثار العنف اللفظي والجسدي على سلوك السيدات وأسلوبهن في الكلام والمرادفات التي يخترنها للتعبير عن أنفسهن والتعامل مع أطفالهن
تقول "هالة": "ما إن يدخل زوجي المنزل حتى يبدأ بموجة صراخ تنتهي إذا لم يجادله أحد، أما إذا حدث العكس فيشرع بسب الذات الإلهية ثم يبرح الأطفال الأربعة ضربًا وفور تدخلي يضربني مثلهم"، مشيرة إلى أنها على الحال هذا منذ سنوات، وعندما ذهبت لوالدها طالبة الانفصال عنه رفض، وأمرها أن ترجع لبيتها على أساس أن يتحدث معه بالأمر، وما زالت حتى اليوم تنتظر نتيجة حديثه.
وتوضح "هالة" أن الحال زاد سوءًا في الحرب، مع فقدان زوجها عمله وسيطرة "وحش الجوع" الذي بات يطرق أبواب كل عائلة غزية، فضلاً عن النزوح وويلاته، "فأصبح يبتكر طرقًا أخرى لا للعمل ولا لجلب لقمة العيش، بل ليعذبنا"، وفق قولها، قبل أن يتلقى اتصالاً للعمل كحارس لإحدى النقاط الطبية في مدينة غزة.
تقول: "في البداية فرحنا أنا والصغار، لكن مع مرور الأيام زادت المأساة، فقد أخذ يشتكي من صوت الأطفال متذرعًا بأنه لا يستطيع النوم، وعرض عليَّ إعطاءهم فيتامين سيحسن صحتهم لكنه سيجعلهم ينامون، فقبلت على مضض وطلبت تناوله معهم، وبعد أيام بدأت ألاحظ أعراضًا جانبية، بينها خلل في الرؤية، ورعشة في اليد، وإعياء لا ينتهي طوال النهار، عدا عن ساعات النوم الطويلة التي تتجاوز 8 ساعات".
وتبين "هالة" أنها سألت أقرب صيدلية عن أقراص الفيتامين المزعومة، فأوضحوا لها أنها أقراصٌ منومة وتوصف لمرضى الصرع والصحة النفسية. تضيف: "غرقت في البكاء لأنه ليس لي أي جهة ألجأ إليها، وخفت من أن يقلب الطاولة علي ويتهمني بأني من جلبت الدواء وأعطيته للصغار"، مشيرة إلى أنها وأطفالها توقفوا عن تناول الدواء، وأخذوا يتظاهرون بابتلاعه، وقد لاحظت تحسن صحتهم.
أما "رانيا" فتعيش معاناة مضاعفة، إذ اجتمعت عليها آثار حرب الإبادة مع إصابتها بالسرطان والأذى النفسي والجسدي الذي يلحقه زوجها بها وبأطفالها.
دمر الاحتلال منزل "رانيا"، وهي اليوم تعيش في خيمة تقول إنها "لا تستر الفضائح مثل منزلها المدمر، إذ كيف ستكتم قطعة قماش الصوت ونحن نسمع حتى همس جارتنا لزوجها". ونتيجة لذلك، "فقدت بناتي الثقة في الرجال، وأخذن يرفضن الارتباط بشكل قاطع، فهن يفضلن الضرب من والدهن على ضربهن من رجل آخر"، وفق قولها.
عنف مركب
وتؤكد هند أبو نجيلة، الأخصائية النفسية لدى مركز الإرشاد التربوي، أن التجارب التي اطَّلعت عليها خلال عملها الميداني في مراكز النزوح في قطاع غزة أظهرت أن الزواج المبكر هو السبب الأول للعنف ضد المرأة، "إذ تتنازل الأُسر عن جميع حقوق بناتها، ثم تقبل بتعرضها للضرب والإهانة بحجة أن الطلاق يخالف تقليد المجتمع".
وتوضح أبو نجيلة، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أنها لاحظت في زياراتها آثار العنف اللفظي والجسدي على سلوك السيدات وأسلوبهن في الكلام والمرادفات التي يخترنها للتعبير عن أنفسهن والتعامل مع أطفالهن.
وقالت إن النساء في غزة يواجهن عنفًا مركبًا، فمن جهة جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ومن جهة أخرى العنف الذي يرتكبه المجتمع متمثلاً بالزوج وتدخلات أهل الزوج بشؤون العائلة الخاصة، الذي يزيد من المشكلة وتبعاتها.
وترى أبو نجيلة أن الرجل عندما يتعرض للعنف من جهات مختلفة يلجأ لتفريغ ما يتعرض له في زوجته أو ابنته أو أخته، اعتقادًا منه أنه يسقط ذلك الوجع ويتخلص منه، مضيفة أنه "بالرغم من أن التذرع بتلك الحجة لا يعطيه مبررًا بالمطلق لممارسة دور المُعنِّف، إلا أنه ما يزال يقوم به على أكمل وجه".
وشددت على أن العنف يولد ألمًا وظروفًا نفسية صعبة وتنعكس من الزوجة على الأطفال، وبالتالي تصبح منظومة العائلة بأكملها في المجتمع بخطر.
وتشير أبو نجيلة إلى أن الكثير من المؤسسات النسوية لا تقوم بدورها تجاه السيدات المعنفات وتتركهن وحدهن في غيابات جب العنف، في حين أن هناك الكثير من الخدمات التي يمكن تقديمها لهن، مثل تدريبهن على كيفية تفريغ الضغوطات النفسية من خلال الفن أو الكتابة، بالإضافة إلى خدمات الدعم القانوني والتوعية القانونية والنفسية على حد سواء، وإعادة تفعيل دور الأمان والتمثيل القانوني في المحاكم الشرعية.
أزمة ممتدة
من جانبها، تقول الأخصائية النفسية آمنة حمد، إن نساء غزة لا يتعرضن للعنف الجسدي فقط، بل يواجهن ضغوطًا نفسية واجتماعية مركبة بداية من صدمة الفقد وحتى الخوف والعزلة وانعدام الشعور بالأمان، مبينة أن حدة تلك التأثيرات تزيد مع غياب مقدمي الخدمات الصحية، أو النفسية، أو الاجتماعية، خصوصًا حينما تهدم تلك المؤسسات أو تغيب الموارد فتجد السيدات أنفسهن في مواجهة مباشرة مع العنف.
نساء غزة لا يتعرضن للعنف الجسدي فقط، بل يواجهن ضغوطًا نفسية واجتماعية مركبة بداية من صدمة الفقد وحتى الخوف والعزلة وانعدام الشعور بالأمان
وتؤكد حمد، لـ"الترا فلسطين"، أن الصحة الجسدية مرتبطةٌ بالصحة النفسية، لذلك يظهر على السيدات في غزة مؤخرًا تراجعٌ في الصحة العامة إلى جانب أزمات نفسية طويلة الأمد.
ورأت أن الوضع الحالي يتطلب الاعتراف بالمشكلة أولاً، ثم الشروع في خطواتٍ لتمكين السيدات جسديًا ونفسيًا، إضافة إلى تعزيز المبادرات المجتمعية، خصوصًا تلك التي تقودها سيدات، مشيرة أن هذا التحرك يجب أن يتم بالتزامن مع تحرك للمؤسسات الدولية لتوفير استجابات سريعة كالخط الآمن أو دعم نفسي عن بعد.
وتعتقد حمد أن العنف ضد النساء خلال الحرب وما بعدها هو أزمة ممتدة لا تبدأ بالقصف وتنتهي بالهدنة، فإن لم تؤخذ تلك القضية على محمل الجد، سيبقى العنف طيفًا مظلمًا يرافق كل امرأة تبحث عن الأمان في وسط الفوضى. لذا، تطالب حمد بالضغط على المؤسسات الدولية لتشكيل شبكة أمان والتحرك بشكل فوري لإنقاذ السيدات أو العودة إلى وضع ما قبل الحرب.
عنف متزايد في غياب العدالة
وتؤكد المحامية علياء نصار، أن معدل العنف ضد النساء بعد حرب الإبادة زاد بشكل كبير، "لكن لا أرقام محددة صدرت حتى اليوم توضح مدى حجمه"، مبينة أنه اتخذ صورًا جديدة وأشكالاً متعددة فاقمتها حالة الفقر الشديدة، والنزوح المتواصل الذي عايشته الأسر الغزية وسط أجواء البرد والجوع الشديدين، وغياب الخصوصية، ثم العودة للعيش في مناطق منكوبة أو حدودية لا خدمات إغاثية بها سوى بعض المياه التي لا تكفي عائلة.
وتوضح نصار، لـ"الترا فلسطين"، أن غياب المراكز القانونية وعدم تفعيل دور المحاكم حتى اللحظة الراهنة ساهما في زيادة العنف ضد النساء واستمراره، مشيرة إلى "إجراءات خجولة" تقوم بها المراكز النسوية والحقوقية، مثل تنظيم ورشات توعوية، وأخرى حول الصحة النفسية والحماية من العنف الاقتصادي.
وترى نصار، أن الحل الآن يبدأ بتفعيل دور المحاكم الشرعية لفتح المجال أمام رفع الدعاوى القضائية، ثم زيارة السيدات في المنازل وبيوت الإيواء لمعرفة احتياجاتهن، التي بناء عليها ستوضع خطة متكاملة للعمل عليها ما بعد الحرب.
وأكدت على أهمية توثيق جميع حالات العنف التي ترتكب في الوقت الحالي، استعدادًا لرفع الدعاوى وانتزاع حق الضحايا اللواتي تُمارس ضدهن أشكال مختلفة من العنف.