بين ركام المنازل المهدَّمة، يواصل رجال الدفاع المدني في غزة سباقهم مع الزمن، بأيديهم العارية وأدواتهم البسيطة، بحثًا عن أجسادٍ غيّبها الركام منذ شهور، فالحرب التي أنهت حياة الآلاف خلّفت وراءها جبالًا من الأنقاض والوجع، وما زال تحتها آلاف المفقودين الذين لم يُمنحوا حتى وداعهم الأخير.
وسط هذا المشهد، يقف جهاز الدفاع المدني أمام مهمة تفوق قدرته، إذ يواجه نقصًا حادًّا في المعدات الثقيلة والآليات الميدانية، مما يجبر طواقمه على العمل بما تيسّر من أدوات يدوية، ورغم القصف والاستهداف المتكرر، لم تتوقف الفرق عن أداء واجبها الإنساني، مواصلةً الليل بالنهار في معركةٍ ضد الركام والزمن.
ولأن الحاجة أكبر من الإمكان، لجأ الجهاز إلى تجنيد متطوعين من الأهالي والشباب والعمال للمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ، في مشهدٍ يعكس تلاحم الغزيين وصمودهم في وجه الكارثة، وإصرارهم على انتشال أحبّتهم من تحت الأنقاض، مهما كلّف الثمن.
يؤكّد محمد الحاج يوسف، الناطق باسم جهاز الدفاع المدني في جنوب قطاع غزة، لـ"الترا فلسطين" أن طواقم الجهاز تعمل في ظروف استثنائية بالغة الصعوبة، في ظلّ نقصٍ حادّ في المعدات والإمكانيات اللازمة للقيام بمهامها الإنسانية
حكاية من بين آلاف
من بين آلاف القصص التي تختبئ تحت الركام، تبرز مأساة عائلة شعت التي تعكس حجم الكارثة الإنسانية في القطاع. في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، تعرّض منزل المواطن عصام أحمد شعت في شارع اللبابيدي وسط مدينة غزة لقصفٍ مباشر من طائرات الاحتلال الإسرائيلي.
المنزل المكوَّن من ثلاث طبقات كان يضم أربعة عشر فردًا من العائلة الواحدة، بينهم الأم، وزوجات الأبناء، والأحفاد، وبلمح البصر تحوّل البيت إلى كومة صامتة من الركام تختزن مأساة عائلةٍ كاملة.
بعد ساعات من القصف، تمكنت فرق الدفاع المدني، بمساعدة الجيران والمتطوعين، من انتشال جثامين سبعة شهداء، فيما ما تزال جثامين سبعة آخرين، جميعهم أطفال، عالقة تحت الأنقاض حتى اليوم.
توقفت عمليات البحث في اليوم الثاني للقصف بسبب غياب المعدات الثقيلة، إذ لم تتوفّر سوى أدواتٍ يدوية استخدمها المتطوعون في محاولات شاقة لإزاحة كتل الخرسانة المسلحة التي طمَست معالم المنزل وأحلام ساكنيه.
يقول المختار أحمد شعت، ابن عم صاحب المنزل عصام شعت: لـ"الترا فلسطين": "منذ ذلك اليوم المشؤوم ونحن نعيش على أملٍ مؤجل، سبعة من أطفال العائلة ما يزالون تحت الركام، ولا نستطيع الوصول إليهم، لقد حاولنا بكل ما نملك من أدوات بسيطة، لكن سماكة الخرسانة وصعوبة الموقع جعلت الأمر مستحيلًا".
ويتابع: "كل تهدئة تُعلن في غزة ننتظرها كنافذة رجاء، نعتقد في كل مرة أن الاحتلال سيسمح بإدخال المعدات الثقيلة لاستكمال البحث، لكننا نصطدم بالواقع نفسه؛ المنع والتجاهل، وكأن أجساد أطفالنا لا حقّ لها في دفنٍ كريم".
ويضيف المختار شعت، "نحن لا نطلب معجزة، فقط نريد إخراج الجثامين لدفنها بطريقة تليق بإنسانيتهم، هذا جزء من اتفاقات وقف إطلاق النار، لكن الاحتلال يتعامل بتمييزٍ قاسٍ؛ فهو يسمح بإدخال آليات لانتشال جثث جنوده من غزة، بينما يمنع عائلاتنا من إخراج أحبّائهم من تحت الركام".
إمكانيات متآكلة أمام دمار هائل
ويصف ضابط الإسعاف خالد العجرمي طبيعة عملهم خلال الحرب بأنها "معركة مع الزمن والموت في آنٍ واحد". ويقول العجرمي لـ"الترا فلسطين": "كلما وقع استهداف، نتوجه فورًا إلى الموقع، حتى لو كان القصف ما يزال مستمرًا، المشاهد التي نراها لا تُوصف، لم نرَ في حياتنا مثل هذه المآسي، عائلات كاملة، أطفال ونساء مقطّعة تحت الركام، وكبار سن أُبيدوا داخل منازلهم، كانت إبادة بكل ما للكلمة من معنى".
ويتابع: "إمكانياتنا بسيطة جدًا مقارنة بحجم الدمار، معظم معداتنا يدوية وقديمة، لا تتناسب مع طبيعة الانهيارات الكبيرة التي تخلّفها الصواريخ الثقيلة، نحاول بما نملك من شجاعة وإصرار، لكنّ الواقع صعب إلى حدّ الألم".
يواجه جهاز الدفاع المدني في غزة أزمة حادة في المعدات والآليات الثقيلة نتيجة الحصار المستمر منذ أكثر من 17 عامًا، ما يجعل طواقمه تعمل بإمكانات محدودة جدًا مقارنة بحجم الدمار الهائل.
ويقول: "لدينا كادر بشري مؤهل وشجاع، لكن تنقصنا المعدات، كثير من المواطنين استُشهدوا لأننا لم نتمكّن من الوصول إليهم في الوقت المناسب، نستخدم أدوات يدوية بسيطة لا تليق بعمل إنقاذ في ظل هذا الحجم من الدمار".
يتوقف العجرمي عند حادثةٍ ما زالت حاضرة في ذاكرته، قائلًا: "خلال إحدى الغارات، انهار منزل من ثلاثة طوابق فوق ساكنيه، بعد ساعتين من القصف تلقّينا اتصالًا من أحد العالقين تحت الركام يقول: 'أنا ما زلت حيًا، أنقذوني'، كان الجميع من حوله قد استُشهدوا. عملنا ثمانيَ ساعات متواصلة بالأدوات البسيطة التي نملكها، حفرنا من السطح في الطابق الثالث حتى الطابق الثاني، ثم سمعنا صوته من بعيد، أضاء هاتفه وقال لنا إنه تحت الدرج، واصلنا الحفر حتى تمكّنّا من إخراجه حيًا، بعد أن فقد كل من كان معه".
يضيف: "هذه قصة من عشرات المواقف التي واجهناها، بعض الناس لم نتمكّن من الوصول إليهم رغم سماع أنينهم، لأن المعدات غير متوفرة، والوقت ينفد أمام أعيننا".
استهداف المنقذين
خلال الحرب، فقد جهاز الدفاع المدني عددًا من عناصره أثناء أداء مهامهم. يؤكد العجرمي أن الاستهداف المباشر لطواقم الإسعاف والإنقاذ أصبح جزءًا من سياسة الاحتلال، رغم وضوح هوياتهم الميدانية، مشددًا على أنه رغم الخطر، لن يتراجعوا عن واجبهم الإنساني والوطني الذي يَحتم عليهم البقاء في الميدان.
في ختام حديثه، يوجّه ضابط الإسعاف نداءً عاجلًا: "نحن لا نطلب المستحيل، نحتاج فقط إلى معدات تساعدنا على إنقاذ الناس وانتشال العالقين، العالم يتحدّث عن الإنسانية، فليثبتها بالفعل، حياة المدنيين لا يجب أن تكون رهينة الحصار أو حسابات السياسة".
مع كل مبادرة يطلقها جهاز الدفاع المدني في غزة عن حاجته إلى متطوّعين، سواء كان ذلك أثناء الحرب أو حتى بعد وقف إطلاق النار، يتوافد العشرات من الشباب من مختلف المحافظات بهدف المشاركة في جهود انتشال العالقين تحت الأنقاض ومساعدة الطواقم المنهكة جراء حجم الدمار الكبير.
منذ الأيام الأولى للعدوان على قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، التحق الشاب محمد طموس من شمال القطاع بصفوف الدفاع المدني، مدفوعًا بإحساسٍ عميقٍ بالمسؤولية الوطنية والواجب الإنساني.
يقول محمد لـ"الترا فلسطين": "عندما سمعت نداء الدفاع المدني لحاجته إلى متطوعين، لم أتردّد لحظة واحدة، شعرت أن من واجبي أن أكون جزءًا من هذا العمل الإنساني، فالشهداء كانوا يُدفنون تحت الركام، والطواقم بحاجة إلى كل يدٍ تُسعف وتساعد".
منذ ذلك الحين، يشارك محمد في عمليات انتشال الشهداء والمصابين من بين أنقاض المنازل المدمّرة، ويصف تجربته بأنها من أقسى ما يمكن أن يعيشه الإنسان. ويقول: "نشارك في المهام اليومية مع الطواقم: نقل المصابين، البحث عن المفقودين، تقديم الإسعافات الأولية، وحتى إطفاء الحرائق، تلقّينا تدريبات مكثفة لنتمكّن من أداء هذه المهام في ظروفٍ بالغة الصعوبة".
ويضيف بأسى: "الواجب الإنساني هو ما يدفعنا إلى الاستمرار، أكثر ما يؤلم هو رؤية جثامين الأطفال والأمهات تُنتشل بعد أيام من تحت الركام... هذه المشاهد لا تُنسى".
تجربته في التطوّع كشفت لمحمد حجم المعاناة التي يواجهها رجال الدفاع المدني وسط نقصٍ حادٍّ في المعدات وظروفٍ ميدانية بالغة الخطورة: "نعمل في أماكن مدمّرة تمامًا، وأحيانًا قرب مواقع الاحتلال، لكن التفكير في الخطر يتلاشى أمام رغبتنا في إنقاذ الأرواح".
ورغم قلّة الإمكانات، يضيف محمد، فإن روح التعاون والإصرار تجمع المتطوعين كعائلةٍ واحدة تحمل رسالة إنسانية لا تنكسر. لم ينسَ محمد مشهدًا محفورًا في ذاكرته حين اضطر إلى بتر قدم أحد المصابين لإنقاذ حياته، بعد استهداف منزلٍ في بيت لاهيا، في ظل غياب المستلزمات الطبية الضرورية. يقول بأسى: "كانت لحظة قاسية، لكنها كانت السبيل الوحيد لإنقاذه".
صعوبات ميدانية تفوق القدرة
يؤكّد محمد الحاج يوسف، الناطق باسم جهاز الدفاع المدني في جنوب قطاع غزة، أن طواقم الجهاز تعمل في ظروف استثنائية بالغة الصعوبة، في ظلّ نقصٍ حادّ في المعدات والإمكانيات اللازمة للقيام بمهامها الإنسانية، وعلى رأسها المعدات الثقيلة المطلوبة لرفع الركام والبحث عن آلاف المفقودين تحت الأنقاض.
ويقول الحاج يوسف لـ"الترا فلسطين" إن فرق الإنقاذ تضطر إلى استخدام أدوات يدوية بدائية كالمنشار الحديدي وأقراص القطع "الدِيسك" والمجارف، في ظل غياب الجرافات والرافعات والشاحنات الثقيلة، ما يجعل عمليات البحث أكثر بطئًا وخطورة، ويقلّل فرص العثور على ناجين أحياء تحت الركام.
منذ اندلاع الحرب، تلقّت غرف عمليات الدفاع المدني في غزة أكثر من عشرة آلاف نداء استغاثة من المواطنين، وما تزال حتى اليوم تستقبل مناشدات من ذوي المفقودين لانتشال أبنائهم من تحت الركام، غير أنّ ما تمكّنت الطواقم من تنفيذه لا يتجاوز 5% فقط من تلك النداءات، نتيجة القيود الميدانية ونقص المعدات ومنع قوات الاحتلال إدخال الآليات الثقيلة اللازمة للإنقاذ، في وقتٍ تسمح فيه بدخولها حين يتعلّق الأمر بانتشال جثامين أخرى، وفق ما أكّد الحاج يوسف.
يضيف الحاج يوسف أنّ عشرات مركبات الإطفاء والإنقاذ التابعة للجهاز تعرّضت للتدمير أو خرجت من الخدمة بفعل القصف المباشر، أو بسبب العمل المتواصل دون صيانة أو التزود بقطع غيار، ما جعلها غير صالحة للاستخدام في الميدان، وغير قادرة على مجاراة حجم الدمار الهائل في القطاع.
ويشير إلى أن كثيرًا من المناطق، خصوصًا في رفح وخان يونس، ما زالت تُعد "مناطق صفراء" لا يمكن دخولها إلا بتنسيق مسبق أو "ضوء أخضر"، ما يعرقل عمليات البحث عن المفقودين الذين تقدر وزارة الصحة عددهم بنحو عشرة آلاف شخص.
لا تقتصر معاناة الدفاع المدني على نقص المعدات، بل تمتد إلى إرهاقٍ شديدٍ يصيب طواقمه التي تعمل بلا توقّف منذ أكثر من عامين، في ظل شحٍّ في الوقود ودمار الطرقات، ما يصعّب حركة المركبات ويؤخّر وصولها إلى مواقع الاستغاثات، بحسب الحاج يوسف.
ويشدّد على أنه على مدار عامين متتالين، لم يتوقّف الدفاع المدني عن أداء واجبه الإنساني رغم الاستهداف المباشر لطواقمه ومراكزه، واستشهاد 140 من عناصره، ورغم هذه الظروف القاسية تمكنت طواقم الدفاع المدني من انتشال نحو 500 جثمان منذ وقف إطلاق النار الأخير.
في مواجهة النقص الكبير في الكوادر، يقول الحاج يوسف إن عشرات الشبان المتطوّعين انضمّوا مؤخرًا إلى جهاز الدفاع المدني بعد خضوعهم لدورات تدريبية في الإسعاف الأولي ومهارات الإطفاء والإنقاذ تحت الاستهداف، مشيرًا إلى أن هؤلاء المتطوّعين، من سائقين ومسعفين ورجال إنقاذ، يشكلون صمام أمانٍ في أوقات الطوارئ ويساهمون في استمرار العمل رغم الظروف القاسية.
وفي ختام حديثه، وجّه الحاج يوسف نداءً إنسانيًا عاجلًا إلى المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية والإنسانية، داعيًا إلى توفير الدعم والمساندة العاجلة لجهاز الدفاع المدني في غزة، الذي لم يتلقَّ أي دعم فعلي منذ بداية الحرب رغم المناشدات المتكرّرة.